أولى الشعراء العرب منذ مطلع القرن المنصرم الشاعر الفارسي عمر الخيام اهتماماً لم يولوه أحداً سواه. لم يبق شاعر يجيد الفارسية أو الانكليزية والفرنسية إلا عمل على تعريب مختارات من «رباعيات» هذا الشاعر الذي ما زال معاصراً على رغم مرور ثمانية قرون على رحيله. حظي الشاعر «المنجّم» كما وصفه بعضهم، بما يقارب ستين ترجمة عربية، وهذا عدد لم يبلغه - ربما - شاعر آخر في لغة واحدة. وقد يكون الحافز الأول على ترجمته عربياً بمثل هذه الغزارة، طبيعة رباعياته التي يمكن الاختيار منها بحرية تامة، ثم التواري وراءها لقول ما عجز الكثير من الشعراء العرب عن قوله جراء الرقابة المعلنة أو الخفية. لقد أغرت رباعيات الخيام الشعراء العرب مثلما أغرت الشعراء الغربيين الذين أقبلوا أيضاً على ترجمتها الى لغات شتى، وقد وجدوا في الخيام، كما عبّر الشاعر الفرنسي تيوفيل غوتييه في القرن التاسع عشر، صورة أخرى للشعر الشرقي، خالية «من الحجار الكريمة والأزهار والعطور والتشابيه الفخمة والمنمّقة». لقد وجدوا فيه ما سمّاه غوتييه نفسه «البريق المفاجئ الذي يضيء عتمات الفلسفة». ولم يتوانَ الشعراء الغربيون والنقاد والمستشرقون عن قراءته والتشبّع منه حتى التأثر به كما حصل مع ترجمة الشاعر والمستشرق البريطاني ادوارد فيتزغرالد الذي كان له الفضل الجمّ في شهرة الخيام عالمياً. قد يحار القارئ العربي أي ترجمة يقرأ بين الترجمات الستين والكثير منها أنجزه شعراء كبار من مثل أحمد الصافي النجفي وأحمد رامي وعلي محمود طه وأمين نخلة وجميل صدقي الزهاوي... وجميعهم عرّبوه وزناً وقافية، وكلٌّ على طريقته وبحسب مراسه الشعري. أما أكثر ما يلفت فهو تعريب الشاعر النهضوي مصطفى وهبي التل (المعروف ب «عرار») للرباعيات نثراً، وبدت ترجمته أشد حداثة من ترجمات رفاقه وأقل صنعة أو كلفة. وهذا أمر بديهي ما دام تعريب الموزون موزوناً يضفي على النص المعرّب قسمات ليست منه، مهما حاول المعرّب أن يكون أميناً على الأصل. أغرت رباعيات الخيام شعراءنا وبعض النقاد أو الناثرين. فالشاعر الذي طالما عُدّ شبه زنديق أو شبه كافر وأُدرج شعره في خانة «المحظور»، وجد فيه الشعراء العرب ذريعة ليعبّروا من خلال شعره عما جاش في خاطرهم ولم يقدموا على التعبير عنه. فراحوا يستعيدون رباعياته ويكتبونها كما يحلو لهم، صانعين منها رباعيات تشبههم مثلما تشبه صاحبها الذي سمي «المنجِّم الذي لا يؤمن بالسماء». لكن هذا الأمر لم يلغ البتة افتتانهم به، بعالمه ولغته الساحرة وفلسفته ذات النزعة «الابيقورية»، وإعجابهم الشديد بجرأته والحرية التي عبر بها والتي دفعت الكثير من ناسخي مخطوطاته خلال العصور القديمة، الى نسخها سراً ما زاد من أخطائها في اللغة الأم. هذا الشاعر الذي ظلت سيرته شبه مجهولة كان حقاً «الحدقة المستوحدة» كما قال فيه الشاعر الايطالي باسكولي، إنه الشاعر الحكيم الذي ليس هو بملحد ولا بمتصوّف كما رأى فيه بعضهم، الشاعر الذي فهم «الابيقورية» في معناها الفلسفي الحقيقي، فإذا اللذة لديه أو لأقل الملذّة، حال من التوازن الداخلي التي يغيب فيها الألم، ألم الجسد، والاضطراب، اضطراب الروح. ولم تكن فلسفته هذه إلا سعياً لإسعاد الذات والقضاء على الخوف من الموت. هكذا راح الخيام «يغني» الحياة العابرة التي لا تفصلها عن الموت إلا «فُسحة نَفَس» كما يعبّر، وكذلك الطبيعة الفاتنة والحب المتقد الذي رأى فيه بعض النقاد حباً صوفياً ومثالياً، على خلاف آخرين لم يلفوه إلا حباً واقعياً. وكان يؤلم الخيام كثيراً عجز الإنسان عن بلوغ الحقائق العليا وعن كنهه أسرار الوجود، هو الذي لم يتخلّ لحظة عن «الشك» حتى في برهات الإيمان المطلق. وهذه النزعة «الشكوكية» هي التي دفعت الكاتب الايراني الكبير صادق هدايات الذي مات منتحراً في باريس، الى الافتتان به باكراً، فعمل على جمع «رباعيات» له اختارها بحسب ذائقته الشعرية والفلسفية، ووضع لها مقدمة هي من أجرأ ما كُتِب عن الخيّام. والجرأة هنا تعني العمق مثلما تعني المعرفة والوعي الفلسفي والجمالي. وقد وجد فيه هدايات الكاتب الشاب حينذاك، شاعراً ظل «منذ شبابه حتى موته، مادياً، متشائماً ولا أدرياً». وقرأ هدايات فلسفة الخيام على ضوء نصوص شوبنهاور وغوته وفولتير وبودلير وسواهم، وقد ركّز على نزعته الابيقورية واللاأدرية، وجعل منه مرجعاً له، فلسفياً وأدبياً. والرباعيات التي اختارها وقدّم لها، وقد بلغت مئة وثلاثاً وأربعين، تمثل الصورة التي رسمها لشاعره، وليتها تعرّب مع المقدّمة لأنها تؤلف مدخلاً آخر وغير مألوف الى عالم الخيام. ولئن بدت الترجمتان اللتان وضعهما الشاعران أحمد الصافي النجفي وأحمد رامي من الترجمات العربية الأكثر رواجاً وربما الأكثر اكتمالاً، فإن ترجمة أخرى تضاف اليهما هي التي أنجزها حديثاً الشاعر الإماراتي محمد صالح القرق عن الفارسية وبدت مفاجئة في صنعتها الحاذقة، وفي الجهد الذي بذله صاحبها، وقد أعاد تأليف الرباعيات، خارجاً على نظام «الدوبيت» أو «الرباعية» القائم على البيتين، معتمداً الأبيات الأربعة أو الأشطر الثمانية. وهذا ما جعله يتلبّس شخصية الخيام لينظم الرباعيات في حلّة مختلفة تماماً، مسبوكة وشديدة المتانة.