لم يكن اللبنانيون بحاجة الى تجدد أعمال العنف في عين الرمانة وطرابلس لكي يتأكدوا من عمق المشاكل الأمنية التي يواجهها بلدهم. ولم يكن لبنان في حاجة الى سقوط المزيد من القتلى ومشاهد دمار جديدة حتى يدرك أبناؤه العلاقة السببية بين هذه الحوادث من جهة وتأصل التعصب الديني والمذهبي في نفوس نفر كبير من اللبنانيين، من جهة أخرى. غير ان كثيرين من بيننا يحتاجون – للأسف - الى مثل هذه الحوادث الدامية كي تكون حافزاً للنظر بجدية في كيفية الخروج من هذا النفق الطويل والبائس وللبحث عن حلول ووسائل فاعلة للحد من تفاقم ظاهرتي الطائفية والعنف. البعض اعتبر ان هذه الأوضاع المتفجرة تحتم الإسراع في تشكيل حكومة وطنية، اي حكومة تنصر اللبنانيين على الطائفيين، وتملك التفويض السياسي الكافي والأكيد لكي تضرب بيد من حديد على أمثال الذين تسببوا بحوادث في عين الرمانة وطرابلس. هذا صحيح. فالأعمال الإجرامية تتستر عادة بالمناخ العام. اذا طاب للزعماء التقاصف السياسي، فليس من الغريب ان يواكبهم الأنصار والمؤيدون بالاحتراب الفعلي. واذا دخلت اقوى التكتلات النيابية المجلس الوزاري فإنه من المفترض ان تخف حدة التوترات السياسية ومن ثم ان يفقد مرتكبو الجرائم الفردية غطاء سياسياً يتغطون به في مواجهة القانون والقضاء. بيد أن حكومة الوحدة الوطنية، على اهميتها وتعاظم الحاجة اليها، لا تملك تقديم حل كاف لمعضلات الأمن وللمشاكل الناجمة عن التعصب الطائفي اذا لم تكن تملك الأدوات والوسائل الكافية لردع فرسان العنف. من يشك في هذا الأمر عليه ان يذكر ان الحكومة الحالية - حكومة تصريف الأعمال - هي أساساً حكومة وحدة وطنية. ألا يجلس فيها وزراء يمثلون سائر الكتل النيابية الرئيسة المتخاصمة؟ مع ذلك لم تتمكن هذه الحكومة من ضبط الأمن بالمقدار الذي تتطلبه حاجات الاستقرار والتآلف الوطني. البعض الآخر حمّل الجيش اللبناني المسؤولية عن هذه الاوضاع، وخاصة المسؤولية عن حادث عين الرمانة. اصحاب هذا الرأي اشاروا الى الحاجة الى تمركز دائم لقوات من الجيش فيما دعوها بالمناطق الحساسة مثل خط التماس بين منطقتي الشياح وعين الرمانة. ألم تبدأ الحرب الأهلية في السبعينات من القرن الماضي من هذه البؤرة الأمنية تحديداً؟ قيادة الجيش ردت على هذه الانتقادات ببيان تضمن نقداً غير مباشر لأصحابها. في هذا النقد بينت قيادة الجيش ان هذه الحوادث الفردية لا مهرب منها، كذلك اشار بيان قيادة الجيش الى التحديات والأعباء الكبيرة الملقاة على عاتق القوات المسلحة وإلى «التضحيات الجسام» التي يبذلها افرادها في مواجهة هذه التحديات. تلك كانت إشارات ضمنية، كما نعتقد، الى الفارق بين التحديات المتفاقمة التي تواجه الجيش اللبناني ومحدودية الإمكانات التي يملكها. هذا الفارق بين حاجات السلامة الوطنية من جهة، والإمكانات المتوافرة للقوات المسلحة اللبنانية كان ماثلاً في أذهان المسؤولين اللبنانيين الذين أقروا خدمة العلم خلال منتصف السبعينات. وهذه الفجوة بدت وكأنها كانت غائبة عن الذين اندفعوا الى إلغاء خدمة العلم خلال عامي 2005 و 2007. فكيف يمكن تبرير هذا الإغفال الاخير؟ هل نجد فيه اصداء لمخاوف يبديها بعض فرقاء الفكر والسياسة في دول عديدة تجاه التجنيد الإلزامي؟ عندما تبلورت مشاريع وأنظمة التجنيد الإلزامي في الديموقراطيات القديمة، وخاصة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، لقيت معارضة لأكثر من سبب. عارضها معتنقو الأفكار التحررية والانسانية لأنهم كانوا ضد السياسة التوسعية والعدوانية التي انتهجتها الامبراطوريات الاوروبية والتي جعلت حكوماتها تلجأ الى التجنيد الإجباري. بيد ان لجوء هذه الدول الى اعتماد الزامية التجنيد لم يعن ان كل بلد طبق هذا النظام اراد استخدامه من اجل الاستيلاء على بلاد الآخرين وعلى ثرواتهم كما فعلت الامبرياليات الغربية. السويد طبقته بقصد تعزيز استقلالها وحريتها. ومن المؤكد ان لبنان لم يطبق خدمة العلم بدافع عدواني وانما لغرض دفاعي بحت. البعض الآخر عارض التجنيد الإلزامي انطلاقاً من مبادئ سلمية، كما بيّن العقيد في الجيش اللبناني الدكتور محمد الرمال في كتابه، «التجنيد العسكري الإلزامي ودوره في التربية الوطنية وبناء المواطنية»، وسعياً وراء مقاومة العنف والقتل. هنا ايضاً يمكن التأكيد ان الدعوة الى التجنيد الإلزامي في لبنان لا تستهدف نشر العنف في البلاد، بل على العكس الحيلولة دون وقوعه وإقناع اللبنانيين واللبنانيات، وخاصة الشباب منهم بضرورة تجنبه. اخيراً لا آخراً عارض البعض التجنيد الإلزامي خوفاً من النزعة العسكريتارية، على اساس انه سوف يؤدي بالضرورة الى تدخل الجيش في السياسة والى الانقلابات العسكرية. فالتجنيد الإلزامي يقوي المجتمع العسكري، في نظر معارضيه، على حساب المجتمع المدني، وحملة السلاح على حساب المواطنين العزّل. والتجنيد الإلزامي يفتح الباب أمام دخول شتى انواع العقائد والعقائديين الى القوات المسلحة فتتحول الى بؤرة صراع وتنافس سياسي بين هؤلاء، وأحياناً الى مطبخ وأداة للوصول الى السلطة عبر الانقلابات العسكرية. استندت هذه التحفظات الى ما جرى في بعض دول العالم الثالث، ومنها بعض الدول العربية، من انقلابات متتالية بعد ان طبق فيها نظام التجنيد الإلزامي. الا ان الاستناد الى هذه التجارب لم يكن في محله ولم يحدد بدقة العلاقة بين التجنيد الإلزامي والتدخل العسكري في السياسة. فعندما جرت محاولة انقلاب في لبنان عام 1961 لم يكن لبنان يطبق نظام خدمة العلم. كما ان العديد من الدول النامية في العالم، مثل ماليزيا وسنغافورة، طبقت التجنيد الإلزامي ولكن لم تحصل فيها اتقلابات عسكرية. بقي التجنيد الإلزامي في المجتمعات الديموقراطية موضع سجال ونقاش. وفي نهاية المطاف ادى هذا النقاش الى نتيجتين ايجابيتين يصح الإفادة منهما عند البحث في تطبيق هذا النظام في لبنان: اولاً، انه ليس للتجنيد الإلزامي ان يكون سياسة دفاعية ثابتة تطبقها الدول في سائر الظروف والأحوال. انه نظام يمكن تطبيقه عندما تتعاظم التحديات وتحتاج الى تعبئة طاقات الأمة. من ناحية اخرى يمكن التخلي عن هذا النظام عندما تخف هذه التحديات. هكذا طبقت بريطانيا هذا النظام خلال الحرب العالمية الثانية ثم تخلت عنه بعد ان انتهت الحرب وذهبت تداعياتها. وهكذا طبقت السويد هذا النظام حتى انتهت الحرب الباردة وتحدياتها فتخلت عن الدفاع المطلق. ثانياً، ان التجنيد الإلزامي ليس وصفة جامدة غير قابلة للتجريب والتعديل. فقد خفضت ماليزيا مدة التجنيد الإلزامي من سنتين الى ستة اشهر. وجاء هذا التحول ثمرة عوامل عديدة منها انخفاض معدل البطالة في ذلك النمر الآسيوي، وتحسن العلاقات بين مكونات المجتمع الماليزي التعددي بحيث قلت الحاجة الى ضبط التوترات بينها وخاصة بين الملاويين والصينيين. اخذاً بعين الاعتبار هذه العبر ينبغي التأكيد على ان إلغاء خدمة العلم في لبنان كان خطأ فادحاً لأننا لا نزال نواجه التحديات الكبرى التي أدت الى العمل به. فنحن ما زلنا نجابه الضغوط التي تنال من الوحدة الوطنية كما شهدنا خلال الايام الفائتة، ومن التهديدات الاسرائيلية للأمن الوطني اللبناني. اما الثغرات التي رافقت تطبيق خدمة العلم خلال العقود الماضية، فإن من المستطاع النظر فيها وإبطالها. اما ان نطلب من القوات اللبنانية المسلحة ان تضطلع بالدور الوطني المطلوب في صد الرياح الطائفية العاتية من دون تزويدها بالقدرات المناسبة فإننا نخوض مغامرة غير مأمونة العواقب تضع البلاد على طريق وعر. * كاتب لبناني