من المقرر أن تبدأ حكومة جنوب السودان جولة مفاوضات ثانية مع المتمردين الذين يقودهم الرئيس السابق للحكومة رياك مشار في غضون أيام. في الجولة الأولى التي جرت الشهر الماضي، اتفق الطرفان على وقف النار، لكن العنف لم يتوقف ولم يتم التوصل إلى اتفاق لإنهاء التمرد. بل إن السلام لو ساد سيكون حلاً جزئياً لعدم قدرته على مواجهة علّة الصراع: الافتقار إلى المؤسسات المؤهلة لممارسة الحكم في جمهورية ناشئة. بدأت الأزمة في 15 كانون الأول (ديسمبر) 2013 باندلاع القتال ضمن عناصر الحرس الرئاسي، بين القوات الموالية للرئيس سيلفا كير الذي ينتمي إلى قبيلة الدينكا ومؤيدي مشار الذي ينتمي إلى النوير. وعلى رغم واجهته العرقية، فالصراع يدور حول السلطة وانقلب عنيفاً لافتقار السودان إلى مؤسسات وساطة وحكم قوية. ووفق اتفاق السلام الموقّع في 2005، والذي أنهى الحرب الأهلية بين الحكومة السودانية في الخرطوم والمتمردين، كان مفترضاً أن تُعاد هيكلة «الحركة الشعبية لتحرير السودان» إلى ثلاث مؤسسات منفصلة - حكومة وجيش وحزب سياسي قبل استفتاء عام 2011. كانت التحديات مُحبِطة. فقد عانى جنوب السودان بعد عقود من الإهمال في ظل الأنظمة المتعاقبة في الخرطوم، من انتشار الفقر وندرة المؤسسات الرسمية والكادر الكفء اللازم لإدارتها. وكانت فيه أعلى نسبة من موت الأمهات في العالم ولم يزد عدد القادرين على القراءة عن 15 في المئة من السكان، ولم توجد فيه بنى تحتية تُذكر. كان جون قرنق مؤسس «الحركة الشعبية لتحرير السودان» مناصراً لتحويل السودان إلى بلد ديموقراطي علماني، كوسيلة لعلاج آلام الشعب في المناطق المهمشة، خصوصاً في الجنوب. وكان يعتقد بأن حزباً قوياً يمثل السودانيين الجنوبيين، على غرار «الحركة الشعبية» بعد نزع سلاحها، سيكون أفضل خيار لمواجهة حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) في الخرطوم. لكن قرنق مات في 2005 بعد توقيع اتفاق السلام ما رفع نائبه سيلفا كير إلى القيادة. والأخير انفصالي في قناعاته وكانت لديه شكوك مثل مشار ومثلي في شأن رؤية قرنق إلى السودان الجديد، وفي احترام عرب الشمال الجماعات الأخرى. لذلك، لم يبذل الانفصاليون جهوداً كبيرة لبناء حركة التحرير الشعبية، وأصبح الانتماء القبلي، بالتالي، الوسيلة الرئيسة في التنظيم السياسي. وبنظرة إلى استفتاء 2011، كان الانفصاليون مهتمين جداً بتحويل الحركة إلى جيش نظامي، وإنشاء حكومة انتقالية عاملة في جنوب السودان مع جهاز تنفيذي منفصل وفرعين قضائي وتشريعي. وكان الجيش الفاعل يشكل ضمانة لمواجهة أي اعتداء من الشمال. والحكومة المؤهلة ستكون الأداة الرئيسة للحكم في البلد الجديد. وأملوا كذلك بإظهار هذه الحكومة أمام السكان كترياق لأعوام الإهمال الذي مارسته الخرطوم. وعلى رغم أن المبالغ المالية الضخمة التي أنفقت بين عامي 2005 و2011، جلبت لجنوب السودان أولى مدارسه وعياداته الطبية وطرقه المعبدة، فإنها لم تحقق الشيء الكثير على صعيد إضفاء الفاعلية على الحكومة الانتقالية أو الجيش الجديد. أحد المذنبين في ذلك كان مفهوم «بناء القدرة» الذي تبناه المانحون الدوليون. وعندما بدا جلياً أن جهودهم تتجه صوب الفشل لصعوبة وضع جنوب السودان، ركزوا على تنفيذ مشاريع منفصلة، بدلاً من تحسين الحكم الصالح. ونشروا أعداداً كبيرة من المستشارين الأجانب الذين حملتهم رغبتهم في رؤية النتائج السريعة إلى تولّي كل شيء بأنفسهم، من دون أن ينقلوا خبرات كبيرة إلى الموظفين المدنيين السودانيين الجنوبيين. ووجد تقويم حديث لمكتب الرئيس ثغرات واسعة في قدرات كل المؤسسات. فالحكومة عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية بما فيها الأمن، لأكثرية السكان. ويحتل جنوب السودان الموقع الرابع في سلم الفساد بعد الصومال وجمهورية الكونغو الديموقراطية والسودان، وفق مؤشر الدول الفاشلة في 2013 الذي أصدره «صندوق السلام». ولم يصبح «الجيش الشعبي لتحرير السودان» جيشاً محترفاً بعد. ويدعو اتفاق السلام (2005) كل المجموعات المتمردة إلى الانضمام إلى صفوف «الجيش الشعبي»، أو القوات المسلحة السودانية. لكن عدداً من أمراء الحرب المتمردين ظلوا طوال الفترة الانتقالية ينضمون ثم يتركون «الجيش الشعبي»، ما عزز قوتهم الخاصة بين أنصارهم، بدلاً من أن يعزز سلطات الجيش. في ظل هذه المؤسسات الهزيلة، تحولت المنافسة بين كير ومشار سريعاً إلى صراع طائفي. ويرمي العنف إلى السيطرة على «الحركة الشعبية لتحرير السودان» التي يُنظر إليها كقيمة ذات أهمية خاصة في الانتخابات المقبلة عام 2015. وما زالت الحركة تتمتع بالشعبية بفضل دورها في التحرير. عززت الجولة السابقة من مفاوضات السلام الآمال بإنهاء الاقتتال في جنوب السودان، بيد أن المفاوضات ليست سوى توقف موقت في أفضل الأحوال: النقص في كفاءة المؤسسات الذي أفضى إلى العنف ما زال قائماً، وعلى القيادة السياسية ولمصلحة البلد الوليد، إكمال العمل الذي أجهضته، ببناء مؤسسات الحكم الأساسية. * مؤسس «مركز التحليل الاستراتيجي والبحث في جوبا»، ومديره، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 7/2/2014، إعداد حسام عيتاني