_ رداً على الخبر المنشور في الصفحة الأولى الإثنين 6 كانون الثاني (يناير) بعنوان: «هلال داعش ينحسر» حينما كنت صغيراً كانت تمرّ بي «نكتة» اجتماعية، فعندما كنا نلعن الأطفال كان يمر بنا أحد المراهقين، ويقول: «وشفيكم على الشيطان... مسكين دايم تشتمونه وتلعنونه»! وكان هذا يلفت نظري أحياناً، ويغري سمعي بالإنصات أحياناً أخرى، لكنه يدفعني إلى الابتسام دائماً، لأنه لا يعدو أن يكون كما قلت «نكتة» أو «مزحة» من نوع ما، وقد يكون هذا القول أو هذه العبارة ذات بعد تربوي، هو أن الإنسان عندما يحتج بالشيطان فكأنه يحتج بالقدر على معصيته، وكأنه يحاول التملص من مسؤوليته عن ذنوبه وآثامه وأخطائه. لكنني لم أتوقع أن تكون هذه «النكتة» موضوعاً جدياً إلى الحد الذي يتجاوز الجدية، بحيث لا يعود ثمة فاصل بين الجد والهزل، وإلى حيث نعود إلى ما تقوله العبارة الشديدة: الفرق بين العبقرية والجنون «شعرة»، شعرة «عقل» وليست «شعرة معاوية». قبل أشهر قليلة، رأينا بعض المشايخ السروريين المنسوبين إلى الصحوة والعقل والعلم بمآلات الأمور والفهم والإدراك والحصافة والرؤية البعيدة، بل وربما الفراسة وربما استقراء الغيب من خلال الأحلام والمنامات، وغير ذلك من الأمور التي يقولون إنهم يتابعونها ويتلقونها من خلال من يسمونهم «أهل الثغر» و«الموجودين على الأرض»... إلخ، كنا نراهم ونسمعهم يتحدثون عما يسمّونه «لم الشمل» ومحاولة الإصلاح بين الحركات والجماعات الجهادية في سورية، بما فيها «داعش» التي هي كما يعلم الجميع بأنها اختصار لما يسمى بدولة العراق والشام الإسلامية، والكل كانوا يعلمون أنهم كانوا يتداولون كتاب المقدسي (غير المقدّس) المسمى: «الكواشف الجليّة في كفر الدولة السعودية»، فكيف يمكنك أن تلم الشمل مع شخص تكفيريّ يرى كفرك وحلّ دمك وأن نساءك سبايا ورجالك كفّار؟ هذا السؤال لم يكن يحاول الصحويون والسروريون المتحمسون لكل ما هو قتاليّ أو لكل ما يسمى بجهادي، حتى ولو كان ملطخاً بدماء المسلمين وموصوماً بعار التكفير والتفجير بل كانوا يحاولون الزج بجميع الوسائل بشبان المملكة العربية السعودية وشبان الخليج بل وشبان العرب بل وبعض الشبان في أفريقيا وفي أوروبا وأميركا، كانوا يحاولون الزج بهم في أتون المعركة مع النظام السوري بلواء جبهة النصرة أو الجيش الحر أو حتى لواء «داعش» الخارجي التكفيري، الذي يرى أن كل الحكام والأنظمة وكل رجال الأمن وكل القضاة طواغيت، يجب قتالهم، وإنما يتم تأجيل قتالهم لما بعد! فكان هؤلاء المشايخ المزعومون يحثون أشد الحث، ويأمرون أجلى الأمر بالالتحاق بما يسمونه بالجهاد في سورية بأي لواء من الألوية القتالية، من غير أن يسألوا في ذلك خبيراً عسكرياً ولا خبيراً اجتماعياً ولا عالماً حقيقياً، ومع ذلك كانوا يدعون ويكذبون ويقولون إن من يخذل أو يمنع أو يحذر من الانضمام إلى شتى الرايات في سورية إنما هو ممن يعطل الجهاد، ويوالي النظام السوري الطائفي الجائر الذي يسفك الدماء، ويستحل الحرمات. أخيراً، انحسر الهلال، وحان له أن ينحسر، لكن أين المحاسبة؟ لم أكن أستغرب أن ينحسر هلال «داعش»، لأنها كانت تخفي شيطنتها، لأنها تحارب شيطاناً آخر هو نظام المالكي العراقي الصفوي، ولأنها كانت تقوم بإطلاق سجناء يتم تعذيبهم في سجون المالكي وأزلامه، ولكن حين يبرح الخفاء، ويحين الجلاء، وينكشف الغطاء، عندئذ ينكشف أن «داعش» ليست سوى دولة تكفيرية، لو أن المشاركين فيها على قيد الحياة زمن علي بن أبي طالب لقاتلوه كما قاتله أسلافهم الخوارج، وهم الذين قال فيهم رسول الله: «شر قتلى تحت أديم السماء». انحسر الهلال ولم يعد يحتاج أحد إلى أن يكشف شيطنة «داعش»، لكن المستفيد الأكبر من هذا هو حكومة المالكي التي عانت من «داعش» الأمرين في بعض الجبهات فقط من دون جميعها، لأن «داعش» أيضاً كانت مضرة بالشعب العراقي العربي السني الحر أيضاً، كانت تسيطر على المناطق التي يحررها أحرار العراق من ميليشيات المالكي وتقطع رؤوس الناس ومشايخ القبائل بزعم العمالة، وتقتل الناس بالظنة وبالشبهة، وحتى الآن هي لا تقاتل النظام السوري، وإنما تكتفي بتفجير بعض الثكنات العسكرية للنظام، وتتفرغ في جل وقتها للسيطرة على المناطق التي تحررها الجبهات المعتدلة والجيش الحر وقطع الرؤوس وتعذيب الناس فيها. انحسر الهلال، لكن من سيحاسب الرؤوس الصحوية والسرورية الكبرى التي كانت تطبل له؟ فهل من محاسبة لهم حتى ولو كانت محاسبة أخلاقية؟ لا أظن، ولا أتوقع، فنحن أناس سرعان ما ننسى بسرعة. [email protected]