إلى الآن، لا يزال التركيز المتعلق بمؤتمر «جنيف - 2» منصباً على مسائل لن تسمح ظروف عقده بطرحها في بداية المفاوضات بين ممثلي الحكومة السورية والمعارضة. إذ إن تحديات عاجلة ستفرض ثقلها على الوفدين في قاعة المفاوضات، ما سيرجئ البحث في المسائل الأساسية وتدحرجها من رأس الأولويات إلى أسفلها. ما يشد الانتباه في الخطاب السياسي حالياً، موضوع تشكيل «حكومة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة» لتنفيذ بيان جنيف الأول الصادر في 30 حزيران (يونيو) 2012 ودور الرئيس بشار الأسد في هذه الهيئة الانتقالية. الحكومة السورية أعلنت أن وفدها سيأخذ «توجيهاته» من الأسد، وهو «باق في منصبه شاء من شاء وأبى من أبى» خلال المرحلة الانتقالية وأن للرئيس الأسد «الحق» في الترشح إلى ولاية جديدة تبدأ في 17 تموز (يوليو) العام المقبل. أما المعارضة، فيقول قياديون فيها إن «لا دور» للأسد في المرحلة الانتقالية و «لا بعدها». في المقابل، فإن حلفاء المعارضة يقولون في خطاباتهم إن لا دور له «في مستقبل سورية». كان اتفاق الإطار الأميركي – الروسي إزاء السلاح الكيماوي، وضع جدولاً زمنياً ينتهي ب «إزالة» الترسانة من سورية قبل حزيران 2014، الموعد المقرر لإجراء الانتخابات الرئاسية التي يجب أن تنجز خلال 60 إلى 90 يوماً قبل انتهاء الولاية الحالية بموجب الدستور الجديد. هذا الجدول، ألغى فكرة مطالبة المعارضة ب «تنحي» الأسد قبل انعقاد مؤتمر جنيف. كما ألغى فكرة «تغيير النظام» وجعل منه شريكاً للمجتمع الدولي والأمم المتحدة لتطبيق برنامج إزالة الترسانة. كما أنه ألغى عملياً فكرة التنحي خلال المرحلة الانتقالية، التي كانت طالبت فيها دول غربية ومعارضون. من هنا، يجري التفكير في أوساط مختلفة في اللجوء إلى مادة في الدستور الراهن للتمديد للرئيس الأسد لفترة معينة بسبب الظروف الأمنية وغياب الاتفاق السياسي على المرحلة الانتقالية. هناك من يتحدث عن سنة أو سنتين، بحيث إن المدة ترتبط بمدة المرحلة الانتقالية. لكن في الوقت نفسه، يصر مسؤولون سوريون على إجراء الانتخابات الرئاسية. وبدأ موالون تنظيم حملة انتخابية. لكن الواضح أن واشنطنوموسكو اتفقتا على عدم إثارة أي طرف سوري، سواء كان حكومياً أو معارضاً، ما يعكر صفو انعقاد مؤتمر «جنيف - 2»، وترك القضايا إلى طاولة المفاوضات، بحيث يستطيع كل طرف أن يقول ما يريد وراء جدران القاعة. النقطة الثانية التي يجري النقاش في شأنها، تتعلق ب «الصلاحيات الكاملة». تطالب المعارضة بأن تكون لهيئة الحكم الانتقالي صلاحيات على مؤسستي الأمن والجيش والسلطة القضائية، الأمر الذي ترفضه الحكومة السورية. وقال المعلم قبل أيام: «الذي يعتقد من المعارضة أنه ذاهب إلى «جنيف - 2» لتسلم السلطة، نقول له: كفى أوهاماً فنحن نذهب لنرى من يرفض من المعارضة التدخل في الشؤون الداخلية لسورية ويرفض الإرهاب ويعمل من أجل صنع سورية المستقبل». في المقابل، قال رئيس «المجلس الوطني» المعارض جورج صبرا: «النظام وحلفاؤه عندما يصرون على أن يلعب الأسد دوراً في مستقبل سورية. هم من يضع الشروط التعجيزية أمام انعقاد مؤتمر «جنيف - 2»، لا سيما أن تجميل صورته البشعة أمر محال بعد المجازر التي ارتكبتها قواته تجاه الشعب السوري». وجرى حديث عن أن المعارضة تريد أن تكون لحكومة الوحدة الوطنية الصلاحيات التنفيذية من اقتصادية وخدمية مع «تتازلات» في المجال القضائي و «إعادة دمج» بعض المنشقين من «الجيش الحر». وهناك من يتحدث عن تسوية ممكنة، بحيث تكون أجهزة الأمن تابعة للحكومة الانتقالية مقابل بقاء مؤسسة الجيش في عهدة الرئاسة، مع الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية. بعد الانتهاء من المراسم الاحتفالية في مونترو في 22 كانون الثاني (يناير)، ولدى توجه الوفدين السوريين إلى جنيف للتفاوض بمعية «الوسيط الدولي»، والمبعوث الدولي – العربي الأخضر الابراهيمي و «مقرر الجلسات» مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية جيفري فيلتمان، ستكون المعضلات العاجلة في مكان آخر. أول التحديات التي ستواجهها «عملية» المفاوضات، أن كل شيء سيتم ب «قبول متبادل» ما يفتح المجال لامتلاك كل طرف حق النقض في مواجهة الطرف الآخر. ولن يبخل كل طرف في استنفاد هذا الحق إلى آخر المطاف وتسييسه بحيث تكون عملية بلا نهاية. غير أن مبدأ «القبول المتبادل» سيفتح في المجال أمام تدخل راعيي المفاوضات الأميركي والروسي اللذين سيكونان موجودين في الغرف المجاورة كي يضغط كل طرف على حليفه، خصوصاً أن الطرفين اتفقا على «المحاصصة». الأميركي مسؤول عن وفد المعارضة والروسي مسؤول عن وفد الحكومة. كان مبدأ «القبول المتبادل» الحل الوسط لدى التفاوض على صوغ بيان جنيف الأول، بين مطالب أميركية بإدخال نص يبعد «من تطلخت أيديهم بالدماء» من المشاركة في الحكومة الانتقالية ورفض موسكو هذا الأمر، والإصرار على إطلاق «عملية سياسية بقيادة سورية» من دون أي تدخل خارجي. سيتعاظم دور هذه المشكلة، باعتبار أن أولويات الطرفين السوريين وحلفائهما مختلفة تماماً. إذ إن مسؤولي الحكومة، كان آخرهم وزير الخارجية وليد المعلم، أعلنوا أن المؤتمر يجب أن يركز على «أولوية مكافحة الإرهاب». وذهب مسؤولون آخرون إلى المطالبة ب «وقف تمويل الإرهابيين وتدريبهم وإيوائهم قبل البدء بالحل السياسي». وافق مسؤولون روس هلى هذه المقاربة لدى القول بضرورة «توحد الحكومة والمعارضة في مكافحة الإرهاب»، وإعطاء الأولوية ل «محاربة المتطرفين والإرهابيين»، بل إن وزير الخارجية سيرغي لافروف قال: «إن الدول الغربية باتت تدرك خطر المتطرفين». في المقابل، أعلن معارضون أن «الأولوية هي للحل السياسي، ووجوب تشكيل حكومة انتقالية لها صلاحيات على أجهزة الأمن والجيش» مع اتهامهم الحكومة السورية ب «الإرهاب» ومطالبتهم ب «انسحاب جميع الميليشيات الموالية للنظام» من البلاد. بين هذا وذاك، أبلغ مسؤول أميركي وفداً من المعارضة التقاه قبل أيام، أن الحكومة الانتقالية المزمع تشكيلها «يجب أن تكون مهمتها الإعداد للتحول الديموقرطي ومكافحة الإرهاب». سيأخذ الوفدان السوريان الكثير من الوقت للاتفاق على جدول أعمال المفاوضات وأولوياتها. بالتالي، سيغدو طموح المبعوث الدولي – العربي بالتوصل إلى «إعلان مبادئ» ليكون بمثابة اتفاق إطار للمفاوضات في رعاية أميركية – روسية، صعب المنال في الظروف الراهنة. وما يزيده صعوبة أن هذه المفاوضات ستجرى تحت النار. بالكاد حصلت بعض التحسينات الطفيفة في مجال تسهيل وصول المساعدات الإنسانية، على رغم صدور بيان عن مجلس الأمن الدولي وصدور مناشدات إلى «طرفي النزاع» بعدم عرقلة مرور المساعدات إلى الناس المحتاجين، لكن الصراع العسكري يسير عكس الاتجاه. ليس موجوداً أي حديث جدي عن وقف إطلاق نار شامل أو وقف لإطلاق النار محلياً ومناطقياً. على العكس، الصراع يزداد حدة مع اقتراب موعد مؤتمر «جنيف - 2». القوات النظامية صعدت قصفها وعملياتها. مقاتلو المعارضة يسعون إلى صد الهجمات وتحقيق بعض التقدم الميداني. كل طرف يريد الدخول الى قاعة المؤتمر من الموقع الأقوى و«المنتصر». يبدو أن الطرفين الراعيين، الأميركي والروسي، لا يمانعان جدياً في ذلك من دون السماح لأي تهديد جديد لمسار وممرات تنفيذ البرنامج المتعلق بإخراج «الكيماوي» خارج البلاد وتدميره. سيكون الصراع العسكري حاضراً بقوة على طاولة المفاوضات وقبلها. وسيكون مصير المفاوضات معلقاً بما يجري في شوارع حلب شمال البلاد أو أحياء دمشق أو مناطق أخرى. أي عملية انتحارية توقع كثيراً من الضحايا في مدينة تحت سيطرة النظام، ستجعل ممثلي الحكومة يضغطون على المعارضة لإعطاء الأولوية لإدانة دولية ومن المعارضة ل «الإرهاب». كما أن سقوط ضحايا بغارة أو قصف، سيجعل ذلك أولوية لدى المعارضة لحشد إدانات دولية. عليه، يصح التوقع أن «جنيف - 2» لن يكون أكثر من مناسبة إعلامية، لكنه مناسبة لا بد منها لتطلق مساراً سياسياً يعقبه «جنيف - 3» و «جنيف - 4». مسار لن يحقق بسرعة نتائج، بل سيكون عملية تدفع الأطراف المعنية المحلية والإقليمية والدولية إلى التفكير في شكل سياسي. إنها عودة الأطراف المحلية والدولية والإقليمية إلى السياسة محكومة بقعقعة السلاح بعدما كان الصراع في سورية لثلاث سنوات مليئاً بالكثير من مستويات الصراع الإقليمي والدولي والثورة المحلية. عودة إلى السياسة، لا تزال خواتمها رهن التطورات على المسارات الأخرى في المنطقة خلال الأشهر الستة المقبلة ونتائج المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية والمفاوضات الإيرانية - الغربية. * صحافي من أسرة «الحياة»