عزفت الكاتبة المصرية سعاد سليمان على وتر غير مشدود، باختيارها حكاية معتادة، استهلكتها الأقلام تناولاً، لتكون موضوعاً لروايتها القصيرة «آخر المحظيات» (دار الكتاب العربي- بيروت). مع ذلك، استطاعت أن تمنحها جاذبية ما، عبر لغة شاعرية مقتصدة، وتقنية بناء ماكرة، حاولت من خلالها أن تعطي روايتها عمقاً واتساعاً، وإن بدت الكاتبة، في المجمل، لا تزال واقفة فوق المساحة التي جربتها، ونجحت فيها، وهي فن القصة القصيرة، الذي أبدعت فيه مجموعتين لافتتين هما: «هكذا ببساطة» و»الراقص»، إضافة إلى رواية الفانتازيا السياسية «غير المُباح». غادرت سليمان عالم المهمشين، المحبّذ لديها، والذي صنعت من ثناياه لوحات سردية بالغة الإحكام والجمال، لتتخذ شخصيات تنتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى وتمنحها أدوار البطولة في رواية تحكي فيها قصة زوجة اكتشفت خيانة زوجها بعد موته، عبر الضغط على أزرار هاتفه الجوال، الذي كان محرماً عليها الاقتراب منه في حياته، وكذلك ملفاته الورقية المكدسة في مكتبته. إنها حكاية رامي، الحقوقي والمترجم في الأممالمتحدة وابنة عمه «زينة» التي تزوجها وأنجب منها هرباً من عشيقته الفنانة التشكيلية التي تنتمي إلى أسرة مفككة، فوالدها طبيب قلب شهير تنكر لها، وأمها عجوز متصابية منحدرة من سلسلة محظيات متوالية عبر تاريخ مصر الحديث، وطليقها سادي مربوط بعلاقة شاذة مع أمه إذ يحكي لها تفاصيل لقاءاته الحميمة بزوجته. تبدأ الرواية بأسئلة توجهها الزوجة إلى زوجها الراحل: «لماذا مت؟ وكيف تموت من دون أن أشفي غليلي منك؟ لماذا الآن؟ كيف أسترد حقي منك؟»، لتدور طول الوقت في سلسلة من الأسئلة اللاهثة خلف أجوبة ناقصة، فتصنع منها تقنية متنامية للتشويق، والتقدم المتمهل نحو نهاية تنطوي على مفارقة. تقوم هذه التقنية على مستندين أساسيين، الأول يتمثل في رسائل هاتفية شاعرية مكثفة تبعثها العشيقة إلى الزوج من رقم ليس مسجلاً باسم أحد في سجل الهاتف. والثاني يتعلق برسائل قصيرة أحياناً ومطولة أحياناً، يطالعها من دون أن يرد عليها، أو يكتب على هوامشها قصائد قصيرة حزينة تائهة. وفي المرة الأولى والأخيرة التي يرد على إحدى تلك الرسائل، ينكشف المستور بعدما تكتشف زينة سرّ إهمال زوجها لها، وسبب الحياة الفاترة التي جمعتهما من غير أن يهتمّ رامي بأنوثتها أو إنسانيتها، بدءاً من أحوالها النفسية التعيسة، وصولاً إلى الاعتناء بإشباعها جنسياً في فراش الزوجية. وربما أرادت الكاتبة أن تنتقم من بطلها، اللامبالي المغرور، حين جعلته موضوعاً لتساؤلات الزوجة، ورسائل العشيقة، من دون أن تعطيه أدنى فرصة ليبرر ما أقدم عليه، إلا في خطابه الأخير، الذي أظهره رجلاً هارباً من طغيان عشق أورثه كآبة مقيمة، لأنه اعتاد ألا يكون ضعيفاً أمام امرأة. وعلى النقيض، تأتي صورتا الزوجة والعشيقة إيجابيتين، فالأولى صابرة صامدة، والثانية وفية رقيقة، إلى حد أن رسائلها تجعل الزوجة، تعيد اكتشاف زوجها الذي لم تعرفه أبداً، فتهيم به عشقاً بعدما فارق الحياة. توظف الكاتبة خبرتها كامرأة في التغلغل إلى أعماق نفس الزوجة المخدوعة المحرومة العاجزة، فتصور حيرتها، ثم رغبتها في الانتقام «المعنوي» ممن خدعها، والثأر لكرامتها، ومحاولة التغلب على النكد العارم، الذي يغرقها، حتى ينتهي بها الأمر إلى الاستسلام لقيام أختها بمسح رسائل العشيقة، فيما تقوم هي بحرق الرسائل وحملها إلى قبر الزوج كي تهيلها على جثته. وهنا تقع المفارقة التي تنتهي بها الرواية: «فجأة تجسد الكابوس حقيقة أمامي، حقيقة لا تقبل الجدل أو التكذيب، يرقد رامي شبه عار، يحتضن امرأة من ظهرها... على وجهها ابتسامة الرضى». وبينما أعتق الزوج نفسه من طغيان العشق بالموت، قطعت العشيقة صلتها بسلسلة المحظيات في عائلتها من خلال عدم الإنجاب، وهذا ما جعلها في نهاية المطاف ممتنة للرجل الذي عذبها، فها هي تقول في إحدى رسائلها: «لست غاضبة منك، لأنك رفضت أن تمنحني طفلاً يهبني أمومة هي حلم كل نساء الأرض، فأنت بذلك وضعت النهاية لتاريخ المحظيات التعيسات، فكنتُ آخرهن». أما الزوجة - رغم أنها الضحية - فهي لم تجد ما يشفي غليلها، لتجتر تعاستها، وتعيش هواجسها، وتنحني من جديد أمام إذلالها. ففي الوقت الذي ظنت أن حرق الرسائل ورميها على جثة الزوج الخائن سيُبرّد نفسها المشتعلة حزناً، اكتشفت أن العشيقة متوحدة معه في موت هادئ. وهنا تصف الراوية حالها، على لسانها، في آخر جملة لها: «تلاشت معالم الطريق من أقدامي، وحيدة ضائعة، أحاول أن أصلب طولي، وأتلمس طريقاً للخروج».