في رواية «وحدها شجرة الرمان» (دار الجمل - 2010) يقدّم الكاتب العراقي سنان أنطون سرداً عميقاً بمقدار ما هو مثير للحال العراقية من زوايا متعددة تهيمن عليها الزاوية الإنسانية أو الفردية. هذه الزاوية تتمثل في مواجهة الإنسان العراقي مختلف التحديات التي عاشها العراق عبر العقود الثلاثة الأخيرة في شكل خاص. هنا، تطرح التحديات السياسية والاجتماعية والدينية كما يراها الفنان الشاب جواد في حياته العائلية وفي علاقاته بالأشخاص والمؤسسات والأنظمة. في هذا الخضم تبرز علاقتان رئيستان: علاقة جواد بوالده ومن خلال ذلك بالمهنة التي يقوم بها الوالد وهي غسل الموتى؛ أما العلاقة الثانية فهي علاقته بفتاة أحبها وكاد أن يتزوجها لولا اختفاؤها المفاجئ من حياته. غير أن من المهم في النسيج الروائي المتنامي أمامنا أنه يفسح لكثير من الرؤى والتأملات حول القضايا الكبرى: الموت والحياة والفن والتاريخ والسياسة والدين والطائفية والعلاقات الاجتماعية وغيرها التي تنطرح في المجمل على نحو تستدعيه وتبرّره الأحداث والتطورات السردية، بمعنى أنها ليست مقحمة على العمل كما هي الحال في الأعمال الروائية الضعيفة. سيجد بعض قرّاء أنطون، وأنا منهم، أن من الصعب قراءة هذه الرواية من دون استحضار عمله الروائي الأول «إعجام» (2003) الذي مثل حالة سردية مميزة ومختلفة من حيث هو يرسم وضعاً استثنائياً ومتخيلاً بالطبع لسجين عراقي يترك مذكراته في سجنه بعد خروجه ليحاول المسؤولون بعد ذلك فك طلاسمها لأنها كتبت بحروف مهملة، أو من دون نقاط، تفادياً للرقيب، وبحيث صار من الضروري «إعجامها» بإعادة النقاط للتعرف إلى دلالاتها. ذلك العمل، الذي لعب الرقيب فيه دوراً أساسياً ومثلت الرقابة ما سبق أن وصفته في مقالة حول تلك الرواية باستراتيجية سردية يمكن إدراجها ضمن ما يعرف بنقد استجابة القارئ، يمكن أن يعد مقدمة لرواية أنطون الثانية من حيث إن الروايتين تتمحوران حول الوضع العراقي في مرحلة صدام وما عاناه العراقيون من ويلات الحرب والتسلط البوليسي للدولة. غير أن الرواية الثانية «شجرة الرمان» تتجاوز سابقتها على مستويات عدة منها الفني المتصل بالنسيج الروائي سواء تمثل في تعدد الشخصيات والأحداث وتداخلها المعرفي/ الثقافي من حيث القضايا المطروحة أو من حيث اتساع الرؤية الفلسفية في تأمل تلك القضايا والناس المتصلين بها. في «وحدها شجرة الرمان» نحن بصحبة جواد، الشاب العراقي، وعائلته المكونة من والدته ووالده ومعاون والده، إلى جانب الحضور المتواري للأخ القتيل أمير، أو أموري كما تناديه العائلة. ومع صحبة جواد وعائلته تطالعنا صحبة تبعث الرهبة في النفس، هي صحبة الموت متمثلاً بمغسلة الموتى التي يديرها والد جواد حيث يمتهن تغسيل الجثث وإعدادها للدفن من تلك المغسلة، أو «المغيسل» كما يطلق عليه محلياً، تطلق الرواية رؤيتها القاتمة على وضع العراق في فترة الحصار حيث ترد الجثث ومعها قصص الوفاة ليخيم شبح الموت. غير أن اللافت هو أن الأب وزوجته ينظران إلى مهنة الغسيل من ناحية دينية وإنسانية وليس من ناحية الرهبة والحذر اللتين يتسم بهما رد فعل جواد حين يكتشف طبيعة عمل والده ثم حين يطلب منه في مرحلة لاحقة مساعدة الوالد وبعدها، أي بعد وفاة الوالد، القيام بالعمل وحيداً. أما عنوان الرواية فيشير إلى شجرة تنمو في «المغيسل»، وطلوعها مما يأتي به الأب إلى البيت فاكهة للتناول المنزلي. ها هو وصف الراوي جواد للمغيسل والشجرة والعلاقة بهما وذلك بعد وفاة الأب وغسله في المكان ذاته الذي كان يغسل فيه جثث الآخرين: «كان المغيسل معتماً كقبر كبير ما عدا بصيص من النور كان يدخل من الشباك الصغير خرجت إلى الحديقة الصغيرة الخلفية وتقرفصت أمام شجرة الرمان التي كان أبي يحبها كثيراً والتي شربت مياه الموت لعقود وها هي الآن تستعد لشرب الماء المنساب من جسده هو عبر المجرى الذي يمتد من الحفيرة التي تحيط بالدكة غريبين كنا ولم أدرك هذا حتى الآن، كانت أزهار الرمان ذات الحمرة القانية قد بدأت تتفتح في صغري، كنت آكل ثمار هذه الشجرة حين يقطفها أبي ويعود بها إلى البيت بنهم، لكنني توقفت عن ذلك بعد أن أدركت بأنها تشرب من مياه الموت». من هذا النص وغيره تنبثق القضيتان الرئيستان اللتان تشغلان العملية السردية في رواية أنطون: قضية الموت، وقضية العراق. والقضيتان متداخلتان بطبيعة الحال، لكن لكل منهما كيانها المستقل: الموت بأبعاده المحلية العراقية والشخصية، والموت بأبعاده الدينية والفلسفية. أما قضية العراق فتفضي إلى الوضع السياسي والمأساة الإنسانية المتمثلة بالاضطهاد السياسي - الديني وما ينبثق عنه، في الحالة العراقية، من حروب متتالية تخلف الدمار سواء كان جسدياً أم نفسياً، في حين تأخذنا مسألة الموت إلى مسارات إنسانية كبرى قابلة للاستقلال عن مسألة العراق بصفتها هماً أساسياً ومتصلاً للإنسان في كل مكان. ومع أن شيئاً مشابهاً يمكن أن يقال عن الحرب التي تحدث في كل مكان، فإنها تظل حادثاً عرضياً. لكن اللافت هو استدعاء الموت في الرواية من خلال خصوصية محلية، عراقية وإسلامية تتمثل في مكان غسل الموتى وما يرتبط به من دلالات وأبعاد ثقافية واجتماعية واقتصادية. النص المقتبس هنا يأتي عند منعطف سردي مهم يتمثل في اضطرار جواد للقيام بدور أبيه المتوفى في غسل الموتى وذلك بعد ممانعة قوية. لكن ذلك المنعطف لا يأتي فجأة، فالرواية تمهد لذلك الدور بالحلم أو بالأحرى الكابوس الذي يأتي في مطلع الرواية ويرى فيه جواد حبيبته التي سنعرف عنها فيما بعد وقد ماتت ولكنها تحدثه وتطلب منه أن يغسلها. هنا تبدأ الرواية تنسج خيوطها: المغيسل والأب والحبيبة والعشيقة وجواد وعائلته، لكن قبل هؤلاء وربما أكثر هيمنة منهم هو الموت الحاضر بشكليه الوجودي الأزلي والطارئ التاريخي على بلد يخوض غمار حروب لا تكاد تنتهي. لن أسرد الحكاية كاملة في هذه الملاحظات مكتفياً بالوقوف عند بعض منعطفات النص لأشرك القارئ معي في ما استوقفني من وجوه هذه العمل السردي المميز. أول تلك الوجوه هو النظرة المتفلسفة للوجهين المرعبين والمتداخلين في الرواية: الموت والحرب. يلاحظ جواد قدرة والده على التعامل مع الموت كما لو كان شيئاً عادياً تماماً في حين أنه هو عاجز عن تبني تلك الرؤية التصالحية مع الفناء. كان والده يقوم بعملية الغسل ثم يعود إلى حياته العادية كما لو أن شيئاً لم يحدث: «ثم سمعت مسبحته تطقطق قبل أن تغمر صوتها أغنية من الراديو الذي فتحه. بدت الأغنية كأنها قادمة من عالم بعيد لم يغرق بعد كلياً في الموت كما غرقت هذه الغرفة لساعة أو أقل. تعجبت من قدرة أبي على العودة إلى إيقاع الحياة العادية بسهولة بعد كل مرة يغسل فيها أو بعد كل يوم يقضيه هنا كأن شيئاً لم يكن. كأنه ينتقل من غرفة إلى أخرى ويترك الموت وراءه وكأن الموت خرج من التابوت وذهب إلى المقبرة وعادت الحياة إلى المكان». هذا الاعتياد على الموت يشبه اعتياد العراق على الحروب. ففي شتاء 2003 كان العراقيون ينتظرون حرباً أخرى مقبلة، ووجد جواد نفسه أمام تساؤلات والدته وهي تسأل زوجها بعراقيتها البسيطة: «شنسوي حجي؟ نظل ببغداد؟» وكان جوابه مستسلماً لقدر اعتاده تماماً: «أي لعد وين نروح؟ إذا الله يريد يأخذ أمانته يأخذها هنا. هاي مو أول حرب، بس إن شاء الله آخر وحده. كافي عاد زهكنه». وحين ينطرح السؤال على جواد نفسه يجيب بجواب مشابه ثم يخاطب نفسه (والقراء معه): «لكننا كنا نستقبل الحروب كمن يستضيف زائراً يعرفه تمام المعرفة فيهيئ له كل ما يمكن لتكون إقامته خفيفة». هكذا، يبدو الموت للعراقي الشاب، بكل ما يزخر به المشهد من كوميديا مأسوية. ومع أن جواد يرى الموت، والحرب، هنا من ذات الزاوية المستسلمة، فإنه يخرج عنها بمنظوره الثقافي الفلسفي المغاير. فجواد لا يمتلك الرؤية الإيمانية نفسها التي تريح والديه في قبولهما القدر. بعد وفاة والده يشتد إحساس جواد بالموت، فها هي الجثث تترى عليه وكأنها رسائل يبعث بها الموت الذي يتحول إلى ساعي بريد: «أكاد أسمع الموت يقول: أنا أنا، لم أتغير أبداً. لست إلا ساعي بريد». ويتخيل الشاب رد فعل والده إزاء تلك الرسائل، فهو سيقول إنها إرادة الله، لكن جواد لا يجد في نفسه القدرة على قول ذلك، فهو يخاطب أباه الغائب: أنت كنت مسلحاً، لا بل مدججاً، بالإيمان الذي كان يحمي قلبك ويجعله قلعة منيعة على قمة جبل. أما أنا، فقلبي بيت مهجور، شبابيكه مكسورة وأبوابه مخلوعة تعبث به الأشباح وتتنزه فيه الرياح». في مثل هذه المكاشفة، وغيرها في الرواية كثير، تتضح فوارق مهمة ترسمها الرواية لتتضح منها متغيرات الثقافة والمسافات بين الأجيال. لكن الكاتب بواقعيته السردية يجعل تلك المكاشفة بين جواد وبين نفسه على أحد المستويات، مع أنها تحدث أيضاً بينه، بصفته كاتباً، وبين القارئ. لم يكن بإمكان الشاب جواد أن يبوح لوالده أو والدته، بل حتى لأحد من أقاربه بشكوكه الدينية، تماماً مثلما أنه لم يكن ليطلعهم على علاقاته الجنسية بحبيبته ريم التي تصفها الرواية بحسية عالية: «قبلت رقبتها واستنشقت عطرها الياسميني الذي ظل يدوخني لأشهر. طوقت رقبتها بقبلاتي ثم تسلق فمي رقبتها قبلة قبلة نحو حنكها...». لكن إذا كان اقتحام التابو الجنسي ممكناً الآن في عالمنا العربي بعد ما كثرت النصوص التي تكثر من مشاهد الجنس، فإن اقتحام التابو الديني يظل صعباً على من يودون لو فعلوه بالوضوح نفسه الذي نجده في رواية أنطون المكتوبة، كما يبدو، في الولاياتالمتحدة حيث يعيش الكاتب منذ سنوات والمنشورة في بيروت حيث تعددية الأديان والأيديولوجيات. حين قرأت رواية أنطون كنت، وبمحض الصدفة طبعاً، قد فرغت للتو من قراءة رواية للبرتغالي هوزيه ساراماغو بعنوان «موت غير متواصل»، وهي رواية صدرت عام 2005 ونشرت ترجمتها الإنكليزية عام 2009. ليس هذا مكان الحديث المفصل عن رواية ساراماغو، لكني ألمح إلى قضيتها الرئيسة التي تتمثل في وضع متخيل وعجيب تكتشف فيه إحدى البلاد أن الناس فيها لم يعودوا يموتون، أي أن الموت قد غاب تماماً عن البلد فالناس يمرضون لكن من دون أن يموت أحد. ثم تمضي الرواية في سرد عجيب مرعب ومضحك معاً يعود فيه الموت لكن ليس بالهيمنة التي يرسم بها عادة، فهو يرسل الرسائل لمن سيموتون ليكتشف في إحدى الحالات عجزه عن السيطرة على أحد الأشخاص. تذكرت رواية ساراماغو وأنا أقرأ وصف جواد في رواية أنطون للموت بأنه يرسل الرسائل. غير أن ما استوقفني لم يكن وجه الشبه، وهو قصير طبعاً، وإنما هو الفارق الكبير في دلالات الموت وكيفية النظر إليه وتوظيفه السردي بين كاتب برتغالي وعربي بما يحمله كل منهما من إرث ثقافي خاص ينعكس على العمل وفلسفته وبنائه.