يعرض لبنان وسورية صيغتين متعارضتين ظاهرياً لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، لكنهما متماثلتان في الجوهر، تشيران معاً إلى فشل عملية بناء الأمة في البلدين. في لبنان ينتقل منطق المجتمع الأهلي التعددي من دون تعديل إلى مستوى الدولة، ما يتسبب في تعدد هذه من وراء وحدتها الشكلية، وفي تدني مستوى استقلالها عن التكوينات الأهلية التي اعتمدت وحداتٍ سياسية للنظام اللبناني. وهو ما يجعل الدولة انعكاساً لتجاذبات المجتمع ومنازعاته المحتملة، الأمر الذي يفضي إلى شلل متكرر للدولة وعجز عن المبادرة والتنظيم الفعال والقيادة. أكثر من ذلك، يتكفل النظام ذاته صون تماسك وصلابة الجماعات الأهلية، بحيث يحد من اختلاطها وتمازجها، كما من انفتاحها على ما يتجاوزها، ما يسهل عملياً إدامة علاقة تنازعية بينها. فإن لم يكن التنازع الطائفي حصيلة مؤكدة للنظام، فإن هذا لا يتوافر على آليات فعالة لاتقاء هذا المنزلق. وعبر النظام وفرص التنازع الوفيرة التي يؤمنها، تتكون وترسخ الطوائف ذاتها. فمثل الطبقات، لا توجد الطوائف إلا في الدولة وعبرها وفي الصراع وعبره. على هذا النحو يترابط النظام والطائفية بصورة جوهرية، فلا يعاد إنتاجه إلا بعملية تضمن إعادة إنتاج الطوائف، أو بالفعل ترسيخها وتصليب عودها وإحكام صناعتها. هذا، وليس جبروتاً متأصلاً خاصاً بها، هو ما يجعل الطوائف تلك الكيانات العنيدة المتصلبة الممانعة. الطوائف دوماً كائنات سياسية، لا تحوز تماسكاً خاصاً بها ولا حياة مستقلة ولا دواماً ذاتياً. تتماسك وتحيا وتدوم بفضل عمليات صنعية من خارجها، بفضل اندراجها في العمليات السياسية الخاصة بالتنافس على السلطة والنفوذ والأمن. ما نريد ترتيبه على هذا التحليل الوجيز أن الطوائف لا توجد في المجتمع إن لم توجد أولاً في الدولة، وذلك خلافاً للانطباع الشائع. ومنذ أن توجد الطوائف في المجتمع فإنها موجودة في الدولة سلفاً. «إلغاء الطائفية السياسية» يعني تالياً إلغاء الطوائف، أي انتظاماً جديداً للمجتمع، إعادة بناء لبنان. محصلة النظام في لبنان تآكل المستوى السيادي، وجعل الدولة ذاتها موضع تنازع سياسي. في سورية يجري عكس ذلك ظاهرياً. يُفرض منطق الدولة الواحدي على المجتمع الأهلي المتعدد، دون وسائط أيضاً. وبينما يتكفل النظام اللبناني إضعاف الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والنقابات عبر الاعتماد السياسي للطوائف، يجري إضعافها في سورية ايضاً، لكن هذا يتضمن أيضاً تعزيزاً غير مباشر للروابط الأهلية وفرصاً أكبر لتطييفها. هذا لأن إلغاء التعدد الاجتماعي والسياسي (عبر تعميم منطق السيادة الواحدي الخاص بالدولة إلى المستوى الاجتماعي) يتوقف، بفعل حسابات سياسية تتصل بحاجات استقرار السلطة وبقائها، عند حدود التكوينات الأهلية، أي عند التعددية «الطبيعية». لكن هذه لا تحوز مبدأ تماسك ودوام ذاتيين، بل هي تتجدد عبر هذه العلاقة مع مستوى سيادي متصالح مع تكوينات مضادة للمواطنة، لأنه يولي السلطة الخاصة أهمية أكثر من الدولة العامة. وهو ما يعني أن «الأهلي» ثانوي وليس أولياً في سورية، مصنوع وليس «طبيعياً»، سياسي وليس اجتماعياً. هنا أيضاً لا توجد الطوائف في المجتمع إن لم توجد في الدولة. في المجمل، بينما تلحق السيادة في لبنان بالسياسة، يجري إلحاق السياسة بالسيادة في سورية. ومع تغييب مستوى للتعددية والسياسة والاختلاف، تجري مطابقة النظام مع الدولة مع الوطن، فيكون الاعتراض على النظام عملاً ضد الدولة وخيانة للوطن. في لبنان، بالعكس، يُمعَن في تسييس الوطنية، فتغدو كل المواقف مشروعة على حد سواء تقريباً. ولا ريب في أن هذا الشرط مسؤول بقدر ما عن انخفاض وساوس لبنانيين حيال التعامل مع إسرائيل (وغيرها). فإذا كانت الدولة مقر السيادة منخورة بالصراعات السياسية والطائفية، وإذا كان الولاء للطائفة ومنظماتها يتقدم على الولاء للوطن، وإذا كان التخوين سلاحاً مشروعاً في صراع لبنانيين ضد بعضهم، فهل يبقى التعامل مع جهة أجنبية خيانة وطنية؟ بخاصة حين تكون لكل طائفة وطنيتها الخاصة وعلاقاتها الخارجية، أو حين يكون عملاء طائفة أبطال أخرى؟ إن النظام اللبناني الذي يعتقل «العملاء» بيد يزرعهم باليد الأخرى. أما احتكار الوطنية في سورية فيضمن للنظام احتكار التخوين أيضاً. والخلاصة أن مشكلة لبنان هي التعدد حتى على مستوى السيادة، وفي سورية تبعية السيادة للسلطة الخاصة. ولما كانت السيادة واحدة جوهرياً ومستقلة جوهرياً، فإن النتيجة واحدة في البلدين: سيادة وطنية منقوصة. أما اجتماع تعدد السياسة ووحدة واستقلال السيادة، تعدد الأحزاب والمنظمات ووحدة الأمة والدولة، فليس بالأمر المتاح. الخلاصة أيضاً أن الدولة متقاسمة في لبنان، فلا ينعقد عليها الولاء الأعلى للبنانيين، ما يبيح لنا القول إنه ليس ثمة وطنية لبنانية. ولا ينعقد الولاء الأعلى للسوريين أيضاً على الدولة، لكن بسبب تبعيتها، ما يبيح القول أيضاً إنه ليس ثمة وطنية سورية. المحصلة واحدة هنا أيضاً: فشل بناء الأمة وتآكل الدولة. مرة لحساب وظيفة السلطة، ومرة لحساب المجتمع الأهلي. وكذلك الافتقار إلى داخل وطني: في سورية الداخل «ممسوك»، وفي لبنان الداخل «منفلش». غير متماسك ذاتياً في الحالين. في مثل هذه الشروط يغدو كل كلام على سيادة الأمة أو الشعب، على وجود الشعب ذاته، كلاماً إنشائياً لا يكاد يكون له معنى. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو: كيف يتمايز في كل من سورية ولبنان مستويان للسيادة والسياسة، للدولة والمجتمع الأهلي، فتصان سيادة الدولة وتتحرر السياسة، ويحفظ التعدد الأهلي من دون أن يكتسح الدولة ذاتها؟ موضوع السياسة في البلدين هو كيفية تشكل مستوى وسيط يضاف إلى مستوى الدولة الواحدة ومستوى المجتمع الأهلي المتعدد، يلعب دور حاجز للحيلولة دون التطييف المتقابل للدولة والمجتمع، ويسهم في ضبط وظيفة السلطة أو منعها من «التغول». الخلاصة الأخيرة لهذا التناول التخطيطي أن أياً من نظامي البلدين لا يصلح بديلاً من الآخر. يوفر النظام اللبناني حريات سياسية وثقافية ثمينة، لكنه يجردها من أي مفعول تراكمي وطني، فوق أنه ينزلق بسهولة إلى الحرب الأهلية. في المقابل هناك استقرار في سورية، لكن أيضاً بلا تراكم وطني، فوق أنه يجحف في حرمان السكان من حرياتهم السياسية.