نجحت الروائية النروجية آسني سييرستاد في تكوين عالم أدبي متكامل في روايتها المُستمدة من الواقع الأفغاني «بائع الكتب في كابول» التي صدرت في ترجمتها العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف. وقد نجح المعرّب حليم نصر بنقل الأجواء الاجتماعية والسياسية التي حبكتها الروائية النروجية. لم تعرف أفغانستان الهدوء على مر العقود، فهي انتقلت من الهيمنة السوفياتية الى سيطرة طالبان فاحتلال قوات حلف شمال الاطلسي. لكن مجتمعاً بسيطاً غارقاً في تفاصيل حياته اليومية يعيش على هذه الأرض الشاسعة التي شهدت تحوّلات متتالية. يبدو في الرواية وكأن أفراد هذه البيئة لا يحيطون بتعقيدات الوضع السياسي، لا سيما أن الكاتبة تميل الى سرد قصص المآسي العاطفية. وتبرز، في هذا السياق، رومنطيقية الاغاني الأفغانية: «هاتِ يدك يا حبيبي/ سوف نختبئ بين أحضان المروج/ وإما أن نعيش حبيبين/ وإما أن نموت تحت طعن السكاكين». وفي أسلوب حيادي، تصف الكاتبة أجواء الحرب من خلال مقاربة شبه وثائقية خالية من الشاعرية والحماسة: «هما في مكان هو الأكثر عصياناً للقانون في العالم، وهما يشعران بالضجر». إذاً، آثرت الكاتبة سرد قصص الحب على الغوص في الحياة السياسية الأفغانية. فوصفت الزواج، وهو شكل من المقايضة القائمة على المصلحة المادية والمرتبطة بقرار الأهل. فيبرز الزفاف السيئ لشاكيلا ووكيل، وكذلك اختلاط الحداد بفرحة الأعراس: «الزفاف أشبه ما يكون بمأتم صغير. فعائلة العروس تعيش أيام أسى وعزاء في الأيام التي تلي حفلة الزواج كما لو أن الأمر أشبه بمأتم». ولا تتوانى الكاتبة عن فضح قساوة المجتمع الأفغاني من خلال سرد حكاية جميلة التي خانت زوجها فاضطرت عائلتها الى قتلها، إذ «دخل الأخوان الغرفة معاً، ومعاً أطبقا على وجه أختهما جميلة، ومعاً قاما بالضغط على الوسادة أكثر فأكثر، حتى أزهقا روح الفتاة». طغت على الرواية المقاربة الثقافية، لأن هذه الصحافية النروجية اندمجت في المجتمع الأفغاني. وقد كتبت روايتها بعدما تتّبعت حياة عائلة خان سلطان مدة ثلاثة أشهر. وسلطان هو بائع الكتب الذي استمر في ممارسة مهنته على رغم ضغوط الأنظمة المختلفة. وأكثر المشاهد المؤثرة في هذا السياق هي محرقة الكتب: «أوراق جعلها الزمان صفراء، وبطاقات بريدية بريئة، وأغلفة كتب جافة تعود الى كتب مرجعية قديمة ذهبت كلها أضحية تلحسها ألسنة النيران»، فيخيّم جو من الحزن، لأن علاقة عاطفية عميقة تربط البائع بكتبه. هكذا، شكّلت سيرة حياة سلطان خان جزءاً من حركة مجتمعية متكاملة تتأرجح بين القمع والنزعة نحو التحرّر. وكرّست الكاتبة أحد فصول الرواية لعرض قوانين طالبان الاجتماعية المتشدّدة لتبرز التناقض مع حقبات منصرمة أكثر تحرراً: «عندما بُني هذا الفندق في الستينات من القرن الماضي، فإنه كان أحدث فندق في كابول. كانت ردهته حافلة بالرجال الذين يلبسون بذلات أنيقة، وبالنساء اللابسات تنانير قصيرة، واللواتي هنّ من ذوات تصفيفات الشعر الحديثة». ورصدت الرواية الحركة الاجتماعية عبر ربط التديّن بالشعور بالعجز الذي يعيشه المرء في زمن الحرب. ويبرز مشهد الموت عبر أطفال معوّقين وأولاد تائهين بعضهم عرج وبعضهم عميان: «هذه المناظر تبعث القشعريرة في جلد منصور. فبعد أن يستولي عليه هذا الموقف المؤثر، فإنه يقرّر أن يصير إنساناً جديداً. سيكون إنساناً جديداً ومسلماً تقياً. وسيقوم باحترام مواقيت الصلاة». لكن في فصل آخر، يظهر التدين وكأنه عقاب، فالتلميذ فاضل وقع عليه قصاص لأنه لم يجب في شكل صحيح عن سؤال طُرح عليه خلال الدرس الديني. ومن القمع البسيط الذي عاشه هذا الطالب المدرسي الى رواية الحجّاج الذين قتلوا الوزير، يغرق المجتمع الأفغاني في حال من الضوضاء. وبالفعل، ارتكب أولئك الحجاج هذه الجريمة بعدما باعتهم إحدى المؤسسات تذاكر سفر على متن طائرة وهمية. وقد رويت هذه الحادثة من وجهة نظر إيمال، أصغر أبناء سلطان، الذي يتناول قطعة من الحلوى (سنيكرز) كي لا يجهش بالبكاء. هكذا، نجحت الكاتبة في إدراج الأحداث الكبرى ضمن أجواء الحياة اليومية في هذه الرواية التي تشابكت فيها حياة الرجل الأفغاني مع مجريات الحروب. ففي الفصل المكرّس لسرد تحرّكات بائع الكتب سلطان الذي يعبر الحدود من أفغانستان الى باكستان، تتطرّق الكاتبة الى الإجراءات الموضوعة لمنع مقاتلي طالبان من تخطّي هذه الحدود. وعلى العكس، يغرق عالم المرأة الأفغانية في تفاصيله الخاصة؛ الطبخ، القيل والقال، «البوركا» والأمومة. وتبرز أجمل الصور التي تجسّد تفاعل المرأة مع الحياة السياسية: «لم تكن هناك زخات رصاص، ولا قنابل، قريبة من ذلك المكان. الشيء الوحيد الذي التهب كان شاكيلا ذاتها؛ فهي وقعت في الغرام». كذلك تطرقت الكاتبة الى تفاعل المرأة الأفغانية مع المتغيرات على المستوى الاجتماعي. فمنذ سقوط طالبان، تشكّلت اتحادات نسائية تهدف الى تعليم البنات ومحو الأمية. ويُظهر الحوار بين شاكيلا ووكيل مقايضة ضمنية بين الرجل وزوجته المستقبلية. إذ تطلب المرأة من رجلها أن يكف عن التدخين، أما هو فيطالبها بارتداء البوركا قائلاً: «إن لم تقومي بارتداء البوركا، فإن ذلك سيحزنني، وهل تريدينني أن أشعر بالحزن؟». هكذا يظهر التناقض في الرواية بين المرأة الأفغانية والصحافيات الأجنبيات اللواتي «يلبسن أزياء الرجال». لا تغوص الكاتبة في أعماق شخصياتها الأدبية، بل تجعل منها مرآةً للتحوّل السياسي والاجتماعي. هكذا، تعدّدت الشخصيات والوجوه والأسماء لتشكّل عناصر من مشهد ثقافي، بدلاً من أن تتمتّع ببعد سيكولوجي. هل ما روته آسني سييرستاد هو الحقيقة؟ لا نعرف بالفعل. قام بائع الكتب، الذي يُدعى فعلاً شاه محمد ريس، بنشر روايته الخاصة بعنوان «كان يا ما كان بائع كتب في كابول» وقد تُرجمت الى اللغات النروجية والبرازيلية أو البرتغالية.