فر الشقيقان الفلسطينيان محمود وأحمد من سورية الشهر الماضي متجهين إلى مصر التي دفعوا فيها أموالاً لبعض المهربين من أجل مساعدتهم على الوصول إلى أوروبا... وما إن شرعا في رحلتهما البحرية حتى تعرضا للسرقة تحت تهديد السلاح واقتيدا إلى قارب يحمل أكثر من طاقته ومن ثم غرق في البحر ليسقط أكثر من مئة شخص في المياه. وتمكن الشقيقان من العودة إلى الشاطئ بينما غرق آخرون وتم ترحيلهما في غضون أيام من مصر التي تشهد اضطراباً وتنامت فيها المشاعر المعادية للفلسطينيين. ويقطن الأخوان الفلسطينيان حالياً في مخيم عين الحلوة اللبناني وتخضع حياتهما لقيود أشد من أي لاجئين آخرين من سورية. ويبدو أن الفلسطينيين الذين باتوا جميعاً على دراية تامة بحياة اللاجئين كانوا أكبر الخاسرين من النزوح الجماعي من سورية. ويقول محمود (23 سنة) الذي طلب عدم ذكر اسم عائلته: «أمسكوا بالنساء والأطفال وألقونا في القوارب كما لو كانوا يلقون حجارة أو شيء آخر بلا قيمة... لم يكن هناك سبيل للعودة». وأضاف: «أشهروا في وجوهنا السكاكين وأخذوا أموالنا وهواتفنا المحمولة وانتزعوا الحلي الذهبية من النساء». ودفعت الحرب حوالى 50 ألف فلسطيني إلى الفرار من سورية التي كانوا يحظون فيها بأفضل معاملة في العالم العربي كله. وعلى رغم أن العدد لا يمثل سوى جزء بسيط من إجمالي عدد اللاجئين السوريين المسجلين في لبنان والبالغ 700 ألف شخص إلا أنه كاف للضغط على المخيمات المكتظة بالسكان وأن يعيد إلى الأذهان ذكرى الحرب الأهلية التي دارت رحاها في لبنان ويرى البعض أن سبب اندلاعها هو وصول فصائل فلسطينية مسلحة على مدى العقود التي تلت قيام إسرائيل في عام 1948. وفرت الفلسطينية نوفا سالم (55 سنة) من سورية إلى عين الحلوة أكبر مخيم في لبنان قبل نحو عام بعد قصف دمر منزل أسرتها المكون من أربعة طوابق في دمشق. وسكنت نوفا وابناها في خيمة من الأغطية البلاستيكية والألواح الخشبية بالقرب من حي يديره فصيل من الإسلاميين المتشددين. وتوفى زوج نوفا إثر إصابته بأزمة قلبية قبل أن يغادروا دمشق إذ كان يعمل معلماً لدى وكالة الأممالمتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). وفي أيلول (سبتمبر) علمت نوفا بمقتل ابنها الثالث الذي مكث في سورية لعدم أدائه الخدمة العسكرية. ولم تتحدث نوفا مع ابنها منذ مغادرتها وعلمت بنبأ وفاته من خلال موقع إخباري على الإنترنت. وقالت السيدة الفلسطينية وهي جالسة على مقعد خشبي صغير أمام خيمتها «انتهى كل شيء. فقد حرق كل ما يمكن حرقه ودمر كل ما يمكن تدميره». ويقضي الفلسطينيون على وجه الخصوص أوقاتاً صعبة في لبنان لكونهم ممنوعين من شغل أكثر من 70 مهنة ويخضعون لقيود أكبر بخصوص ملكية العقارات والحصول على خدمات الدولة. ويواجه لبنان الذي يبلغ عدد سكانه أربعة ملايين نسمة صراعاته السياسية الطاحنة واقتصاده الذي يئن من خسائر قطاعي السياحة والأعمال بسبب الحرب الأهلية السورية. وقال كامل كزبر عضو مجلس بلدية مدينة صيدا الجنوبية التي تضم مخيم عين الحلوة إن لبنان بلد صغير يعاني بالفعل من مشكلات اجتماعية واقتصادية وأمنية ومن ثم فإن هذه المشكلة تزيد الطين بلة. صحيح أن المناطق الفلسطينية في لبنان ما زالت تحمل اسم «مخيمات» ولكنها في حقيقة الأمر أشبه بأحياء المدن إذ تضم مناطق مملوءة بالسيارات القديمة وشبكات من أسلاك الكهرباء وشوارع ضيقة مكتظة بالمتسوقين وتلاميذ المدارس والتجار. وثمة لافتة بجانب عين الحلوة ترحب بالقادمين إلى «عاصمة الشتات» في حين يفحص الجنود الواقفين عند المدخل وثائق تحقيق الشخصية ويفتشون السيارات. وتغطي الجدران مجموعة متنوعة من الجداريات والصور والشعارات من بعض الفصائل السياسية التي تدير المخيم ويبلغ عددها 16 فصيلاً أو نحو ذلك. ويتفشى الفقر والأمراض المنقولة عن طريق المياه في المخيم بسبب البنية التحتية الرديئة. وتوفر الأونروا إلى حد كبير خدمات الرعاية الصحية والتعليم. قد يكون الانتقال إلى المخيم صعباً على اللاجئين الوافدين من سورية بصفة خاصة حيث كانوا يتمتعون هناك بحق دخول المدارس والحصول على الخدمات الصحية وشغل الوظائف الحكومية. وأحياناً يدفع فقدان الأمل صاحبه إلى القيام بأفعال يائسة. وعلى رغم أن كزبر يجلس في مكتب تزينه ملصقات حماسية ذات ألوان زاهية إلا أن نظرته المستقبلية قاتمة تماماً. وأصبحت هذه التوقعات المروعة شائعة لدى الكثيرين في لبنان الذي يتأثر نسيجه الاجتماعي الهش على نحو خاص بالصراعات الطائفية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط. ويخشى البعض من أن يذكي اليأس مشاعر التطرف والعنف وهو أمر يثير القلق بخاصة في ضوء ربط الكثيرين بين الحرب الأهلية التي شهدها لبنان في الفترة 1975- 1990 ووصول مقاتلين فلسطينيين بعد قيام إسرائيل. وليس ببعيد عن الأذهان معركة مخيم نهر البارد الفلسطيني في مدينة طرابلس حيث قاتلت جماعة إسلامية متطرفة الجيش في عام 2007. وانقسم اللبنانيون بالفعل حول الحرب الأهلية السورية وأرسلت الفصائل السنية والشيعية مقاتلين للانضمام إلى الطرف الذي تدعمه في الصراع الذي أخذ منحى طائفياً واضحاً. وفي لبنان يعاني اللاجئون الفلسطينيون في الأساس من حصار بين دولتين تصران على الحفاظ على المعادلات السكانية التي تقصيهم. ويخشى مسؤولون لبنانيون أن يؤدي استيعاب الفلسطينيين ومعظمهم من السنة إلى الإخلال بالتوازن بين السنة والشيعة والمسيحيين في البلاد. وضعف الأمل بالفعل عند الكثير من اللاجئين الذين فروا مرتين أو ثلاث مرات. وأشارت نوفا التي تقطن في عين الحلوة إلى أن تاريخ عائلتها مع النزوح بدأ منذ عام 1948 بطردها للمرة الأولى من صفد التي تقع الآن في شمال إسرائيل. وقالت إن عائلتها استوطنت في هضبة الجولان السورية ولكنها طردت مجدداً حين احتلت إسرائيل تلك الأرض في عام 1967. والآن أجبرت الحرب السورية أسرتها على الرحيل من جديد. وأضافت نوفا وهي تدخن السجائر أمام خيمتها: «كثر الحديث عن فلسطين في القنوات الفضائية والصحف. كلام كثير... لكن يبدو مع الأسف أننا مجرد مسرح لتسلية المسؤولين ومسرحية يشاهدها العالم ويتسلى بها ونحن نغرق».