من دون الدخول في تفاصيل نظرية فإن الخطاب المقصود هو الممارسة الاجتماعية للنخبة والجماهير، وتاريخ الخطاب وتشكله يدور حول التحولات والانقطاعات الكبرى التي تقع خلال حقب تاريخية، لكن المفارقة أن الخطاب السياسي المصري سجل تحولات سريعة وعميقة خلال أقل من ثلاث سنوات هي عمر ثورة 25 يناير! ربما نتيجة الحالة الثورية التي يعيشها المجتمع، وتقلبات الرأي العام الذي يفتقر إلى ثقافة الديموقراطية وأحياناً إلى النضج والعقلانية، ويمكن رصد عدد من التحولات أهمها: أولا: التضحية بالديموقراطية من أجل الحفاظ على قوة الدولة، حيث تراجع اهتمام الخطاب السياسي للنخبة والأهم للجماهير بالمطالبة بإعادة تأسيس دولة ديموقراطية مدنية حديثة، تتمتع باستقلال وتوازن السلطات وإخضاع موازنة الجيش للرقابة البرلمانية. انقلب الخطاب السياسي على صورة الدولة الحلم التي سيطرت على أفكار الثوار ومشاعرهم في ميدان التحرير، دولة الجمهورية الرابعة التي تختلف عن نماذج دولة تموز (يوليو) 1952، وتحول الخطاب العام إلى القبول والترحيب بالدولة التي ثار عليها! فأصبح يطالب بوجود رئيس قوي يفضل أن يكون جنرالاً، أو ذا خلفية عسكرية ويتمتع بسلطات واسعة من أجل ضمان بقاء الدولة وتعظيم قدرتها على الحفاظ على الأمن والاستقرار، وصار وجود قوة الدولة والحفاظ على هيبتها مترادفين لنزعة إعلاء قيمة الدولة ودورها على الشعب نفسه، فهي لا تسأل عما تفعل طالما ستحقق الأمن والاستقرار، أي أن قوة الدولة هدف وغاية. ولعل صور انهيار الدولة في العراق وسورية وليبيا تفسر المخاوف التي دفعت الخطاب العام للتحول من الحلم والبحث عن نموذج دولة حديثة قد ينطوي على التعرض لأخطار وتهديدات، إلى العودة إلى النموذج الذي يعرفه ويحقق الأمن والاستقرار، الذي طالما حظي به المصريون على حساب حريتهم بل وعلى حساب كفاءة أداء مؤسسات الدولة. ثانياً: تحولات الموقف من الجيش، فمن الترحيب والإشادة بالجيش عندما أطاح مبارك في انقلاب ناعم في كانون الثاني (يناير) 2011، إلى الثورة على العسكر والمطالبة بعودتهم إلى الثكنات بعد حادث ماسبيرو وأخطاء المرحلة الانتقالية الأولى بقيادة طنطاوي، لكن وبعد أقل من عام من حكم «الإخوان» طالب الخطاب السياسي - سراً وعلانية - بتدخل الجيش للإطاحة بأول رئيس مدني منتخب، وعندما كرر الجيش لعبة الانقلاب الناعم في 30 حزيران (يونيو)، ارتفعت شعبيته إلى عنان السماء، وبدلاً من شعار «الجيش والشعب إيد واحدة «، اختفى الشعب وظهرت أغنية «تسلم الأيادي» التي تحولت إلى أيقونة وشعار للمرحلة، تجسد فعل الجيش في صورة الفريق السيسي الذي يقترب من صيغة بونبارتية وحنين جارف إلى الناصرية، وربما بحث عن المستبد العادل! في هذا المناخ تتسع دوائر الترحيب بترشيح السيسي إلى الرئاسة، وتتعدد الإشارات في الخطاب السياسي بأنه لا بديل من الرجل لضمان قوة الدولة وتماسكها وقيادة مرحلة ما بعد «الإخوان»، بغض النظر عن شروط العدالة الاجتماعية ومتطلباتها ودمقرطة الدولة، ووجود رئيس مدني، أي أن بقاء الدولة وقوتها مرهونان بوجود السيسي أو رجل مدني أو عسكري يؤيده السيسي، البطل الذي أنقذ الوطن، والذي يجسد إرادة الجيش والشعب والدولة، وبالتالي سيظل أقوى رجل في مصر حتى لو لم يترشح وبقي وزيراً للدفاع. في هذا السياق هناك من يرى أن استمرار السيسي وزيراً للدفاع أنفع لمصر في السنوات المقبلة، ويقترح هؤلاء النص في باب الأحكام الانتقالية في الدستور على استمراره وزيراً للدفاع لثماني سنوات مقبلة أو النص في الدستور على أن يكون تعيين وزير الدفاع من صلاحيات المجلس العسكري الذي يختاره وزير الدفاع! ثالثاً: الانقلاب على «الإخوان» وجماعات الإسلام السياسي، فمن التعاطف والتصويت لمرشحي «الإخوان» والسلفيين في الانتخابات البرلمانية، ثم التصويت لمحمد مرسي، إلى معارضة حكم «الإخوان» وفكرهم، والإطاحة به، بل وتحول الخطاب السياسي إلى الحض على كراهية «الإخوان» والطعن في وطنيتهم واتهامهم بالتآمر ضد مصالح البلاد والعباد، لذلك يرفض الخطاب السياسي دعوات الحوار أو المصالحة مع «الإخوان» وإدماجهم في النظام السياسي الجديد، ويطالب بمنعهم من العمل السياسي، والتشدد في ملاحقتهم أمنياً وقانونياً، والحقيقة أن إنكار «الإخوان» للواقع الجديد ومطالبتهم بعودة مرسي وعدم قدرتهم على تقديم تنازلات تدفع الخطاب العام نحو مزيد من التشدد ضدهم، وضد الأصوات التي تدعو إلى الحوار والمصالحة - وأنا واحد منها - وفق شروط جديدة للعمل السياسي للجماعة تفصل بين السياسي والدعوي. في هذا السياق من الطبيعي أن ينال السلفيين نصيب من خطاب الكراهية والاتهام باستغلال الدين وتوظيفه لتحقيق مصالح سياسية، والمفارقة أن مشاركة السلفيين في خريطة الطريق في 3 تموز (يوليو) لم تشفع لهم، ما قد يعني أن فرص «الإخوان» والسلفيين في الانتخابات المقبلة ستكون محدودة. رابعاً: تحولات الموقف من الشرطة، حيث أكد الخطاب السياسي رفضه تجاوزات الشرطة أثناء حكم مبارك، واستخدامها كأداة قمعية، ما أدى إلى الصدام الدموي مع المتظاهرين في كانون الثاني (يناير) 2011 وانهيار الشرطة والأمن بعد اقتحام السجون، كل ذلك أساء إلى صورة الشرطة ورجال الأمن، وبالتالي تشدد الخطاب السياسي في المطالبة بتطهير الشرطة وإصلاحها، وعلى رغم محدودية الاستجابة، فإن أخطاء حكم مرسي وجماعته، ودعم الشرطة متظاهري 30 حزيران (يونيو) أحدثت تحولاً سريعاً في مكانة الشرطة وصورتها في الخطاب السياسي، ولدى الرأي العام الذي تعاطف مع صور مئات القتلى والجرحى من رجال الشرطة الذين سقطوا على يد المجرمين والإرهابيين. هكذا تحوّل الخطاب السياسي من رفض الدور السياسي والقمعي للشرطة إلى المطالبة بإصلاح الشرطة، وإنهاء دور مباحث أمن الدولة، إلى القبول بعودة مباحث أمن الدولة تحت مسمى الأمن الوطني، والقبول باستخدام القوة المفرطة ضد «الإخوان» وغيرهم في مقابل استعادة هيبة الشرطة ودعمها من أجل عودة الأمن والاستقرار، وتراجعت إلى حد كبير المخاوف من عودة الدولة البوليسية التي قد تنتهي من مواجهة «الإخوان» والإرهابيين لتعصف بحريات المواطنين. خامساً: الانقلاب على شباب الثورة والمرأة. لم يتخلّ الخطاب السياسي عن مديح شباب الثورة والإشادة بدور المرأة، سواء أثناء حكم المجلس العسكري أو «الإخوان» أو الحكم الجديد، لكن هذا المديح لن يتحول إلى ممارسات فعلية لتمكين الشباب والمرأة وزيادة دورهما في عملية اتخاذ القرار وإدارة شؤون الدولة، أي أن التناقض ما بين القول والفعل لازم الخطاب السياسي تجاه الشباب والمرأة، مع محاولات محدودة للغاية لتمثيل بعض الرموز الشبابية وتوظيفها في لجنة الدستور وفي جبهة الإنقاذ وفي جهود تحسين صورة الحكم الجديد في الخارج، والملاحظ أن الخطاب السياسي يميز بين شباب ثورة يناير، والطبعة الثانية من شباب 30 يونيو، وتحديداً حركة «تمرد»، حيث ينحاز نحو الأخيرة ربما لميولها الناصرية مقارنة بالنزعة الليبيرالية الغالبة على شباب ثورة يناير، والتي قد تعارض عودة رئيس ذي خلفية عسكرية أو رئيس مدني يعتمد على دعم الجيش والشرطة. مجمل التحولات السابقة تعكس أزمة الخطاب السياسي بعد ثورة يناير من حيث كونه خطاباً غير ثوري، وغير قادر في الآن نفسه أن يصبح خطاباً إصلاحياً، لأنه لا يمتلك رؤية للإصلاح، ويعاني معضلتين: الأولى الانقسام والاستقطاب في المجتمع، والثانية الخوف من «الإخوان» وانهيار مؤسسات الدولة، وقد برر هذا الخوف - سواء كان حقيقياً أو مصطنعاً - التضحية بالديموقراطية، لأنها تعني خوض تجربة جديدة قد تنطوي على أخطار وتهديدات منها عودة «الإخوان» عبر صناديق الانتخاب، والصدام مع مصالح مستقرة للجيش والشرطة ورجال الأعمال، وأعتقد أن مخاوف تكرار سيناريو انهيار الدولة في العراق وسورية وليبيا تبرر كل هذه المخاوف التي انعكست بوضوح في تحولات الخطاب السياسي وتراجعه عن كثير من أهداف وقيم ثورة يناير، حتى بدا وكأنه عاد إلى عصر مبارك في كثير من أطروحاته. فهل يستمر في تراجعاته بحيث تشمل قضية العدالة الاجتماعية والثأر لدماء الشهداء؟ أظن أن التراجع هنا عملية صعبة وقد تفجر موجة ثورية جديدة. * كاتب مصري