وضعت أحداث الربيع العربي الجميع أمام معضلة كبيرة. فمن ناحية انفجرت ثورات الربيع الشعبية مدفوعة بحلم الديموقراطية والحرية، وحق الشعب في أن يكون طرفاً في العملية السياسية من خلال أطر الدولة ومؤسساتها الدستورية والسياسية. من ناحية أخرى، بعد سقوط رؤساء الأنظمة القديمة، كانت القوى التي فازت بالحكم، وتحديداً الإخوان المسلمين، لا يعرف عنها أنها تعتبر قيم الديموقراطية والحرية والتداول السلمي للسلطة أولوية بالنسبة لها. على العكس، تأسست هذه الجماعة في الأصل على تحريم الديموقراطية، والتمسك بالمقولة الغامضة بأن «الإسلام هو الحل» وأن «الحاكمية لله» وليس للشعب. ومن ثم عندما التحق الإخوان، مثل غيرهم، بالثورة، وأعلنوا إيمانهم بما كانوا يحرمونه من قبل اعتبر كثيرون ذلك أنه نوع من الادعاء الكاذب من باب التقية، وأنه ليس أكثر من تمظهر مرحلي مزيف لكسب تأييد الناس من أجل الاستيلاء على الحكم، ثم التمسك به بعد ذلك بناء على الأصول العقدية والسياسية الأولى التي على أساسها تشكلت الجماعة. بعبارة أخرى، كانت الثورة بالنسبة للإخوان هي السبيل الذي جاءهم من السماء للوصول إلى الوسيلة الأنجع، بل المثلى لأسلمة المجتمع وفقاً لتصورهم، وهي وسيلة الحكم. نحن هنا أمام إشكالية واضحة، وأوضح صورة لها كانت في مصر. لكن صياغة الإشكالية على هذا النحو يخفي، كما سنرى، تحيزاً مسبقاً لافتراض حل بعينه من دون سواه. نحن نعرف الآن كيف تم التعامل مع الإشكالية. هل كان هذا التعامل يعبر عن منطلقات وأهداف ثورة 25 يناير؟ أم أنه تعبير عن خوف قوى بعينها من ما يمكن أن تنتهي إليه هذه الثورة، وبالتالي محاولة للالتفاف عليها؟ من المهم استعادة أن جميع القوى المشمولة بالإشكالية المذكورة (الإخوان، وجبهة الإنقاذ الوطني، والمؤسسة العسكرية) ليست قوى ثورية، ولم تكن هي من أطلق الثورة. وهو ما يتطلب الإجابة على تلك الأسئلة بعيداً عن تحيزات وتفضيلات طرفي الصراع وأنصارهما. بعبارة أخرى، بغض النظر عن رأي كل طرف في الطرف الآخر، يبقى التساؤل عن طبيعة الحل الذي تم اعتماده للمعضلة، ومدى التزامه بمنطلقات وأهداف ثورة 25 يناير؟ قبل الإجابة لا بد من تسجيل أبرز الملاحظات من المشهد الذي انبثق منه الحل. وأول ما يلفت النظر أن الجيش هو من تولى اقتراح الحل، ثم فرضه وتنفيذه. ابتدأ الحل بتجميد الدستور، ثم عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، وحل مجلس الشورى، وتعيين رئيس موقت للدولة، وحكومة موقتة. كان وزير الدفاع، الفريق عبدالفتاح السيسي، هو من أشرف على تنفيذ هذه الخطوات. على خلفية ذلك تم تحويل وزير الدفاع إلى نجم عسكري جديد في الحياة السياسية المصرية، ثم انطلاق حملة لإقناعه بالترشح في الانتخابات الرئاسية. مقابل ذلك انطلقت في الإعلام حملة كراهية مكثفة ضد جماعة الإخوان. فجأة صار جميع قادة الإخوان من دون استثناء تقريباً، بمن فيهم الرئيس المنتخب، مجرمين، أو متهمين، أو مشبوهين تلاحقهم أجهزة الأمن. أي أنه بين ليلة وضحاها صار الجيش هو بطل الثورة وحاميها، وصار الإخوان هم خونة الثورة. وأكثر ما يلفت النظر في كل ذلك أنه كان يحصل في إطار حالة ثورية أطلقتها جماهير كانت في الأصل تطالب بوضع حد لسيطرة العسكر على الدولة. بناء على ذلك هل أن ما قام به الجيش انقلاب عسكري؟ أم ثورة ثانية كما يسميها الجيش؟ الحقيقة أن الجيش لم ينفذ انقلاباً كلاسيكياً كما كان يحدث في زمن الانقلابات العسكرية العربية. ما حصل كان انقلاب بنكهة الربيع العربي، أو انقلاب بغطاء مدني. وفر هذا الغطاء المظلة المطلوبة تحت الظروف السائدة لأن يعود الجيش ويحتل مقدمة المشهد الثوري في مصر. يتكون هذا الغطاء من عنصرين: تنظيمي، وآخر شعبي. تمثل التنظيمي بأحزاب جبهة الإنقاذ، التي تتوزع توجهات مكوناتها بين اليسار والليبرالية والناصرية. وبالتالي فهي تختلف مع الإخوان إلى حد التناقض في كل شيء تقريباً. وحزب ديني جديد هو حزب النور السلفي، وبمؤسسة دينية قديمة هي الأزهر. وكلتا هاتين المؤسستين لم تكونا على وفاق مع التوجه السياسي للإخوان. أما العنصر «الشعبي» فتمثل في ما يعرف بحركة «تمرد». وهذه حركة أثارت اهتمام وشكوك كثيرين، داخل مصر وخارجها، بخاصة لناحية كبر حجم تأثيرها في الشارع، وتضخم قدراتها المالية، مقارنة مع حداثة نشأتها التي لم تتجاوز قبل 30 حزيران (يونيو) الماضي أشهراً قليلة. وأكثر ما يثير الشك في دور هذه الحركة أن بدايتها وجذورها التنظيمية غير معروفة، وعلى رغم ذلك حلت محل الحركات الشبابية المعروفة التي أطلقت ثورة 25 كانون الثاني (يناير)، مثل 6 نيسان (أبريل). الحركة الأخيرة الآن محل شبهة بالنسبة للمؤسسة العسكرية. أما حركة تمرد فتبدو الذراع السياسية للمؤسسة العسكرية. خطواتها وشعاراتها منسجمة تماماً مع توجهات ومطالب المؤسسة العسكرية إلى درجة أنها تدعم ترشح الفريق السيسي، قائد الانقلاب، لتولي منصب الرئاسة. والأرجح أن هذه الحركة تقف وراء الحملة التي تتخذ من «كمل جميلك» و «السيسي رئيسي» شعاراً لها، وذلك لإقناع وزير الدفاع بالترشح لرئاسة الجمهورية. بل خرج رئيس الحكومة، حازم الببلاوي، عن التقاليد السياسية العربية وأطلق تصريحات يمتدح فيها السيسي، وزير الدفاع في حكومته، واصفاً إياه بأنه «رجل مخلص، وعلى قدر كبير من الوسامة، ويحق له الترشح لرئاسة الجمهورية». وأعان مرشحون سابقون للرئاسة من الناصريين وغيرهم أنهم في حال ترشح السيسي للرئاسة فإنهم لن يترشحوا. هنا يبرز السؤال: كيف تحولت ثورة موجهة أصلاً ضد هيمنة المؤسسة العسكرية على الدولة، إلى «ثورة» تطالب باستعادة هذه المؤسسة لهيمنتها على الدولة مرة أخرى؟ ثم ما الذي جمع فجأة بين هذه المؤسسة، وبين القوى التي كانت مناوئة لها في بداية الثورة، لتصبح بعد ذلك داعمة لها، وتوفر لها المظلة المدنية التي تحتاجها؟ تكمن عناصر الإجابة في أن القوى المدنية، بخاصة الناصريين والليبراليين واليساريين، أصيبوا بالذعر، كما يبدو، من فوز الإخوان في أول انتخابات برلمانية ورئاسية بعد الثورة. شعروا بأنه لو ترك الإخوان فسوف يهيمنون على الدولة، وسيقومون بإقصاء كل من لا يتفق معهم. لكن هذه القوى كانت ضعيفة، ولا تملك القدرة على فعل شيء يمكن أن يغير الوجهة التي كانت تتخذها الأحداث. من جانبه كان الجيش هو القوة المنافسة للإخوان بقوته العسكرية، وقدراته الاقتصادية، وشعبية اكتسبها بعد موقفه الداعم للثورة في أيامها الأولى. كان الجيش بدوره يخشى على نفوذه من صعود الإخوان تحت ظل الثورة. والجيش في مصر ليس مجرد مؤسسة عسكرية بل تحول بعد أكثر من نصف قرن من هيمنته على الدولة إلى طبقة حاكمة، لن تقبل باستبدالها على يد الإخوان. هنا التقت مصالح القوى المدنية والدينية مع مصلحة الجيش في الاحتفاظ بهيمنته، والتضحية في سبيل ذلك بالإخوان. يستطيع الجيش بقوته الضاربة أن يضع حداً لحكم الإخوان، لكنه في ظروف الحالة الثورية كان في حاجة لغطاء مدني لتنفيذ مهمته. وهذا تحديداً ما وفرته حركة تمرد، والقوى الدينية والمدنية الأخرى. واللافت هنا أنه عندما أدرك محمد البرادعي خيوط اللعبة، والمدى المبالغ فيه من العنف الذي تتطلبه، استقال من منصبه، وانسحب بحزبه منها تماماً. ولذلك تولى حزب التجمع، أحد عناصر الغطاء المدني، رفع قضية ضد البرادعي. قد يتساءل البعض، وما الضير في إنهاء حكم جماعة كانت تريد الاستئثار لنفسها بالحكم، وإقصاء الجميع عن ذلك؟ هذا سؤال مشروع. لكن مشروعيته لا تكتمل إلا بسؤال آخر: كيف يجب أن يتم ذلك؟ لأنه حتى لو افترضنا صحة أو دقة كل ما قيل في حق الإخوان، والتهم الموجهة إليهم، فإنه لا يبرر أن تتم إزاحتهم عن الحكم بانقلاب عسكري، حتى وإن بغطاء مدني. يجب أن نتذكر أنه حتى المجرم لا تجوز إدانته، وتنفيذ العقوبة فيه إلا بعد محاكمة عادلة وفقاً لمقتضيات القانون. فكيف بموضوع يتعلق بالحكم؟ إذا كان هناك ما يبرر دستورياً إزاحة الإخوان عن الحكم، كان يجب وجوباً، بخاصة بعد ثورة شعبية أفرزت تجربة سياسية ودستورية وليدة، أن يتم ذلك وفقاً لمرجعية الدستور، وضمن إطار الإجراءات الدستورية. ما عدا ذلك هو اعتداء على الدستور، وإلغاء متعسف للأصوات التي صوتت للرئيس، ولأعضاء مجلس الشورى. بهذا المعنى هو عملية إقصاء عنيف لا تختلف أبداً عن التهمة الموجهة للإخوان. بل إن تهمة الإخوان كانت وقتها احتمالاً قائماً، في حين أن الانقلاب كان فعل إقصاء فرض نفسه بقوة العنف. مصير الإخوان، أو مصلحة الجيش ليس هو الأمر الأهم هنا. الأهم من كل شيء، وما كان ينبغي أن تصان حرمته في كل ما حدث هو منطق الدولة التي كان يعاد تأسيسها، وصيانة استقلال مؤسساتها، وقدسية روحها المتمثلة بالدستور، ومهابة القانون المستند إلى هذا الدستور. لكن الذي حصل أن الجيش عاد ليكون سيد العملية السياسية. وحتى لو افترضنا أن خطة الطريق التي وضعها هذا الجيش ستنفذ بحذافيرها، وأن الفريق السيسي لن يترشح للرئاسة، كيف سيكون وضع الرئيس المنتخب الجديد وهو يشعر أن سيف الجيش مصلت فوق رأسه؟ وعندما يتجاوز دور الجيش حماية الوطن إلى لعب دور مركزي في العملية السياسية تحت شعار الوطنية، وحماية الحقوق والحريات، ينكسر الدستور، ويصبح تحت رحمة العسكر، بدل أن يكون العسكر خاضعين لمقتضيات الدستور. حماية الحقوق والحريات هي حصرياً مهمة المؤسسات المدنية للدولة وأذرعتها القانونية، وليست من مهمات الجيش. هذه كانت بدعة عربية أعادت مصر إحياءها بعد الثورة. * كاتب وأكاديمي سعودي