لم يختر الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي عنوان كتابه الجديد «لخولة» من باب المصادفة، فالعنوان المأخوذ من مطلع بيت شهير لطرفة بن العبد (لخولة أطلال في برقة ثهمد...) لا يخفي معنى الحب الطللي الذي عرف به شعراء العرب القدامى ولا ينأى عن البعد المأسوي لهذا الحب الذي برّح جوارح الشعراء العشاق وأنهكهم وأذلهم في أحيان، حتى وإن كانوا من قامة أبي تمام الذي تحدث عن «محنة العاشق في ذل الهوى». وأرفق السويدي العنوان الرئيس بعنوان آخر هو «365 أنشودة حب» في إشارة إلى أن المختارات التي وضعها تمثل أيام السنة، يوماً تلو يوم، ولكل يوم قصيدته التي هي قصيدة حب. هكذا، تبدو المختارات الشعرية أشبه برزنامة عاطفية ملؤها قصائد حب تتوزع العصور العربية كافة، منذ العصر الجاهلي حتى النهضة. ولئن غدت القصائد تمثل تجارب الحب القديم على اختلاف نوازعه ومدارسه العذرية والإباحية والوجدية والصوفية، وكذلك طبقات شعرائه، فبدا مفاجئاً جداً اختيار السويدي قصيدتين للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي (1909 - 1934) وقصيدة للشاعر المصري محمود سامي البارودي (1838 - 1904) وهما ينتميان إلى عصر النهضة في حقبتيه، على رغم فارق العمر بينهما. ومهما حاول القارئ أن يبرر إدراج هذين الشاعرين النهضويين فقط في هذه المختارات القديمة، فهو يظل عاجزاً عن مثل هذا التبرير، لا سيما أن هذين الشاعرين لم يُعرفا بصفتهما شاعرين من شعراء العشق النهضويين، على خلاف شعراء آخرين مثل علي محمود طه وأحمد زكي أبو شادي وإلياس أبو شبكة وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) وإبراهيم طوقان وسواهم من الشعراء الذين كتبوا قصائد غزل وحب وجداني الطابع. لكن «صانع» المختارات الشعرية يملك، كما هو متعارف عليه، الحرية في الانتقاء ما دام لم يحدد منهجاً للمختارات أو معايير مسبقة يلتزم بها. وهذا ما أضفى على مختاراته طابعاً فريداً. وواضح وفق المقدمة الصغيرة التي وضعها السويدي للقصائد المنتقا الم الشعر القديم الذي كانت له فيه تجربة مهمة على صعيد تحديث طباعته ونشره إلكترونياً من خلال العمل الموسوعي أو عبر المواقع مثل الوراق والمتنبي وسواهما. ولعل السويدي شاء قصداً ألا يضع مقدمة طويلة وضافية لهذه المختارات البديعة القادرة فعلاً على تقديم نفسها بنفسها، عبر القصائد والأشعار المتعددة المصادر والأجواء والمذائق والهموم... ويقول السويدي في المقدمة القصيرة جداً والمعبرة جداً: «العبارات شتى والمعنى واحد لا يتغير. فإلى أولئك الذين عبّدوا دروب الحب منذ سالف القرون، إلى طرفة الذي وقف ببرقة ثهمد يندب الطلول وإلى كل طرفة، إلى خولة، وإلى كل من سكنت شغاف قلبه خولة، أقول: «أدين بدين الحب أنّى توجّهت/ ركائبه فالحب ديني وإيماني». والتزاماً بدين الحب هذا استهل المختارات بهذه القصيدة الشهيرة التي كتبها العلامة والمتصوف الكبير محيي الدين بن عربي. ديوان الحب تؤلف قصائد هذه المختارات التي بعدد أيام السنة ديوان الحب العربي المختصر، ديوان الدواوين، كل قصيدة فيه مفتاح لدخول عالم الشعراء وولوج أفق الشعر العشقي على تعدد أخلاطه وأهوائه. وبدا واضحاً الجهد الذي بذله السويدي في فعل الاختيار، وهو فعل يتطلب الكثير من التمهل في القراءة والمقاربة، حتى ليبدو من يقوم بالمهمة أشبه بالصياد الذي عليه أن يلتقط من المقطوعات ما يعادل بيت القصيد. وعليه أن يجمع بين ذائقته وثقافته ووعيه النقدي، لينتهي إلى ما يبتغي في غمرة الكم الرهيب من القصائد والأشعار. عليه أن يقرأ وينتقي ويغربل مرة تلو مرة حتى يخلص إلى ما يخلص إليه. حتى وإن لجأ إلى مختارات أو «جمهرات» تساعده في الانتقاء والفرز، يظل الصنيع غاية في الدقة والرهافة، فالاختيار هو بذاته عمل نقدي. دمج السويدي المدارس والأنواع بعضها ببعض ووفّق بين سائر التجليات التي عرفها هذا الشعر، شعر الغزل وشعر الحب، الشعر الإباحي والشعر العذري، الشعر الصوفي والوجدي والشعر السافر والهاتك، شعر الشعراء وشعر الشاعرات... وفي هذه القصائد تمازجت أحوال العشق كلها، بعطورها وألوانها ودموعها وآهاتها وأتراحها وأفراحها العابرة غالباً، ومقامات الشعراء العاشقين بجنونهم ولوعتهم ونارهم وجحيمهم ونعيمهم المتوهم... هكذا، نقرأ في قصيدة لج رير: «إن العيون التي في طرفها حور/ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا». وفي قصيدة لأبي فراس: «وما كان للأحزان منك مسلك/ إلى القلب لكنّ الهوى للبلى جسر». ويكتب بشار بن برد عن سهاد العشق: «أقول وليلتي تزداد طولاً/ أما لليل بعدهم نهار». ويحضر مجنون ليلى وجميل بثينة وكثير عزة (وما كنت أدري قبل عزة ما البكا/ ولا موجعات البين حتى تولت) وكعب بن زهير (وما سعاد غداة البين إذ رحلوا/ إلّا أغنُّ غضيض الطرف مكحول) وعنترة (ولقد ذكرتك والرماح نواهل/ مني وبيض الهند تقطر من دمي) وديك الجن الشاعر المقتول والقاتل (رويت من دمها الثرى ولطالما/ روّى الهوى شفتيّ من شفتيها) وابن زيدون (لو شئتِ ما عذبتِ مهجة عاشق/ مستعذب في حبك التعذيبا) والشريف الرضي (أنت النعيم لقلبي والعذاب له/ فما أمرّك في قلبي وأحلاك) والمتنبي (وفتانة العينين قتالة الهوى/ إذا نفحت شيخاً روائحها شبّا)... ومن الشعراء الإباحيين يحضر عمر بن أبي ربيعة وسواه ممن كتبوا شعراً في هذا القبيل ومنهم ابن الرومي مثلاً: «أعانقها والنفس بعد مشوقة/ إليها وهل بعد العناق تداني». ويتغنى الصيرفي بنهدي امرأة واصفاً إياهما بالرمانتين: «ماذا الذي قد أرى روحي فداءك هل/ سرقت رمانتي نهديك من شجري». ولا يخفي ابن الوردي رغبته في الراهبات «المائلات والمشرقات» قائلاً: «كم راغب في الراهبات لأنها/ بيض مزنّرة الخصور بكور». ومن قصائد الحب الطريفة تلك التي كتبها شعراء يتغزلون بالحبيبات بصفة المذكر وكأنهن فتيان أو لعلهم تغنوا بفتيان وقعوا في حبهم، وهذه ظاهرة فريدة في الشعر العربي وهي محط أسئلة دائمة. يكتب الأبله البغدادي: «ومهفهفٍ ساجي اللحاظ حفظته/ فأضاعني وأطعته فعصاني». ويكتب لسان الدين الخطيب: «ساحر المقلة معسول اللمى/ جال في النفس مجال النفس». وفي قصيدة لابن هانئ الأندلسي: «أغنّ غضيض خفف اللين قدّه/ وأثقلت الصهباء أجفانه الوطفا». ولم ينأ ابن الرومي عن مضارب هذا الشعر فقال: «متبسماً عن شبه مبسمك/ البرود إذا ابتسمت/ ورددت غمضاً صدّ عن/ طرف المتيّم مذ صددتا». ويكتب القاضي الفاضل: «ظبي إذا ما أدار الخمر قلت له/ هذا الذي لم تدره ظبية الخمر». ويقول ابن خفاجة في إحدى قصائده: «ومهفهفٍ طاوي الحشا/ خنث المعاطف والنظر». كان لا بد أيضاً من إفراد صفحات للشعراء الصوفيين الذين كتبوا قصائد حب رهيبة توجهوا بها إلى البارئ في لحظات من التجلي والإشراق. ويبلغ هذا الشعر الصوفي العشقي مراتب عالية من الوجد وفيها تمتزج الحواس بالروح، والمرئي باللامرئي، والمادي بالماورائي. ومن هؤلاء: الحلاج (والله ما طلعت شمس ولا غربت/ إلا وحبك مقرون بأنفاسي) والسهروردي (صافاهم فصفوا له/ فقلوبهم في نورها المشكاة والمصباح) وابن الفارض (تفديه مهجتي التي تلفت ولا/ منّ عليه لأنها من ماله) ورابعة العدوية (أحبك حبين حب الهوى/ وحباً لأنك أهل لذاك) وسواهم. إنها قصائد حب عربية بعدد أيام السنة (365)، كل يوم له قصيدته حباً عذرياً حيناً أو إباحياً حيناً أو وجدياً وصوفياً... قصائد حب طللية أو تغزلية، سوداوية أو مشرقة، عذبة ورقيقة الحواشي، شفيفة وعميقة في ما تحمل من أحوال ومقامات. لعل المختارات التي وضعها الشاعر محمد السويدي (دار السويدي) هي ديوان الحب العربي في صيغة «المختصر المفيد»، مع العلم أنه يضم قصائد بديعة تقدم إلى القارئ صورة شاملة عن الحب وشعرائه العرب.