حدثان هيمنا على التغطية الإعلامية للملف السوري في الأيام القليلة الماضية: عودة الحديث الغربي عن قوة الجماعات التكفيرية، وتوحّد ألوية وكتائب تحت اسمي «جيش محمد» في حلب و «جيش الإسلام» في ريف دمشق، ما يعزز الفرضية الغربية السابقة. الحديث الغربي عن هيمنة «القاعدة» والفصائل الأخرى المتطرفة موسمي سياسي بالدرجة الأولى، فهو يُطوى عندما تكون هناك نية لدعم المعارضة، هكذا كان الأمر مثلاً أثناء الحديث عن الضربة الأميركية، ويعود بقوة وقت الضغط عليها. ولا يخفى أن الضخ الإعلامي فيه ورقةٌ متعددة الاستخدامات، أكثرها ترجيحاً حتى الآن تفويض النظام بالاستمرار والقضاء على تلك المنظمات، مع بقاء فرضية الانقلاب عليه بحجة عدم قدرته على السيطرة عليها لاحقاً، بخاصة إذا راهن طويلاً على تقويتها وابتزاز الغرب بها. بدوره يبدو توحد الفصائل المسلحة تحت رايات وغايات إسلامية موسمياً، لا لأن جزءاً منها قد يتخلى عن إسلاميته، وإنما لأن هذه الخطوة تبدو إعلامية أكثر منها ميدانية. ويُرجّح ألا يكون لها تأثير يُذكر على التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية. الإعلان عن جيشي الإسلام ومحمد هو بمثابة رد فعل، يعتبره كثيرون غبياً ومتهوراً، على تراجع الغرب عن دعم المعارضة المسلحة وعلى احتمال قبول ائتلاف المعارضة بالمشاركة في صفقة «جنيف 2»، مع توالي التسريبات التي تؤكد بقاء الأسد ضمن التسوية المتفق عليها دولياً. ثمة تفصيل قد يكون موحياً هنا، فقائد لواء التوحيد، أحد مؤسسي جيش محمد، كان في زيارة للولايات المتحدة أثناء الحديث عن الضربة الأميركية، وصرح من هناك بأنه يفضّل دولة إسلامية لكنه يرضخ لما يقرره السوريون في صناديق الاقتراع. لعل الفارق بين تصريحه آنذاك وتوجهه الحالي يشرح مدى تأثير تردد السياسة الغربية على العديد من الكتائب المقاتلة. ما يمكن ملاحظته بسهولة أن الحديث عن قوة الإسلاميين مازال يصب في مصلحة النظام وبقائه، ويعزف على نغمة التخوف من البديل الإسلامي، تالياً عدم تمكين البديل المرتقب من تسلم السلطة. السوريون خبروا هذه المعادلة من خلال النظام أولاً، فقد دأبت ماكينته الإعلامية على القول: «إما أنا وإما الأصولية»، بينما تطبق ماكينته الأمنية والعسكرية مقولة «إما أنا وإما لا أحد». لكن الزعم بعدم وجود خيارات أخرى باستثناء الخيارين السابقين يفرض نفسه بقوة البروباغندا وبالوقائع الحالية على الأرض، وأيضاً بتجاهل قوى المعارضة للجغرافيا البشرية السورية وعدم الدفع بها كقاعدة أساسية لليوم التالي الذي لن تستطيع الكتائب الإسلامية فرض نموذجها فيه، على افتراض أن سورية ستكون على سكة التحول الديموقراطي، وأنها باقية بلا تقسيم أو محاصصة كاملة. لا بدّ بدايةً من فهم فحوى سيطرة الكتائب الإسلامية و «القاعدة» على العديد من المناطق «المحررة»، ففكرة التحرير لا تستقيم تماماً مع واقعة وجود حوالى ثمانية ملايين نازح من أبناء تلك المناطق، سواء في دول الجوار أو الداخل السوري. في الواقع هناك نوعان من المناطق المحررة: مناطق تخضع لحصار وقصف شديدين بحيث تشكل أعمال الإغاثة الملمح الأهم للإدارة فيها، ومناطق لا تخضع لحصار مطبق لكنها باقية تحت قصف قوات النظام، وهي التي تشهد أنواعاً من الإدارة الشرعية الإسلامية. وفي كل الأحوال يجدر الانتباه إلى أن التحرير ينصب أساساً على الأرض، وفي العديد من الحالات على أرض باتت شبه خالية من السكان: مثلاً في معضمية الشام التي كان يقطنها حوالى 100 ألف يجري الحديث الآن عن أزمة إنسانية خانقة يعانيها 12 ألفاً هم من تبقى منهم. في الخلاصة، نتحدث عن وضع شاذ وطارئ، نتحدث عن مناطق منكوبة وفي حالة حرب مستمرة. السكان الذين يُنتظر منهم المشاركة في تقرير ماهية اليوم التالي مع أقرانهم في المناطق الآمنة هم إما نازحون وإما محاصرون تحت ظروف لا تسمح لهم بمواجهة سلطات الأمر الواقع. إطلاق أحكام أو تنميطات أيديولوجية عليهم سيكون مجافياً لواقعهم البائس، وسيتجاهل حقيقة أن وعي الأزمة عادة ما يكون أكثر حدّة وتطرفاً. بافتراض انتهاء الصراع بسقوط النظام، المؤشر الأساسي الذي لا يجوز تجاهله هو أن العرب السنّة يشكلون فقط ثلثي سكان سورية، وإذا كان من مزاج حالي يجمعهم فهو أولاً المزاج الطائفي المقابل لطائفية النظام. قد تنتعش الحركات السلفية والجهادية على أرضية المزاج الطائفي الحالي، أي على أرضية المظلومية التي ترى استهدافاً فاقعاً لوجود السنّة من قبل النظام وصمتاً دولياً مريباً مواكباً له. إلا أن هذا المزاج، في تعيّناته الواقعية، سينحسر مع تمكين السنّة من المشاركة الحقيقية في السلطة، وحينها يتوقع أن ينفرط العقد الرمزي الذي يجمع بينهم الآن. لن تكون سورية الديموقراطية على مثال التوقعات المتفائلة لناشطي الثورة، ولا على مثال المتخوفين منها. التوقعات المتفائلة تتجاهل اعتبارين متناقضين في ما بينهما، ومتناقضين مع التطلعات النهائية لدولة عصرية. فأولاً هناك المد السلفي وثانياً هناك العصبيات الأهلية ومجال عملهما هو الريف: المد السلفي سيكون على حساب العصبيات لكنه ليس مؤهلاً لإقصائها تماماً، والتناقض بينهما لن يسمح بتحالف سياسي. في المدن ذات الثقل البشري الأكبر لن تسمح الطبيعة الصناعية والتجارية بهيمنة التطرف الإسلامي لأنه سيقضي على مرتكزاتها الاقتصادية. قد يعود «الإخوان» فيها لتمثيل الإسلام المعتدل، لكن القوى الاقتصادية ستفضّل أن تتولى تمثيل مصالحها بنفسها بسبب الدرس الأليم الذي تلقته من النظام الحالي حيث لم يتورع عن استخدام السلطة كأداة قهر اقتصادية. بناء على هذه المعطيات لعل الافتراض الأقرب إلى الواقع هو نيل الإسلاميين بكل توجهاتهم نحو ثلث الأصوات. هذا لن يجعل منهم بعبعاً على النحو الذي تصوّره الدعاية الحالية، فضلاً عن أنهم مضطرون إلى تحالفات انتخابية تشذّب خطابهم وتجعله أقرب إلى الاعتدال. الخطاب الإسلامي المتطرف لن يكون وسيلة للحكم، إنه وسيلة للحرب، كذلك هو بقاء النظام الذي بات وصفة مجربة لتغذية التطرف والعنف والتغذّي منهما.