هذه المرة لم تتأخر شخصيات معارضة سورية عن الإشارة المباشرة بإصبع الاتهام إلى «الإخوان المسلمين»، فتحملهم مسؤولية انقسام الائتلاف الوطني المعارض على تشكيل الحكومة الموقتة واختيار رئيسها على النحو الذي بات معروفاً. فالبيان الذي أرسلته تلك الشخصيات إلى القمة العربية يشكو بوضوح من هيمنة «الإخوان» على الائتلاف، بالتالي يطعن في تمثيله الصحيح و «التوافقي» لمكونات المجتمع السوري، في الوقت الذي كانت القمة تكرس الائتلاف ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب السوري. أخذ العديد من الناشطين على الرسالة توقيتها وأسلوبها، فهي بلا شك تنغص الفرحة التي طال انتظارها باستلام مقعد سورية في الجامعة، أما توجيهها إلى القمة فرأى فيه بعضهم تجريحاً في أحقية الائتلاف بتمثيل السوريين. وعلى رغم إقرار هذا البعض بوجاهة الانتقادات إلا أنه يفضّل معالجتها داخلياً وعدم خدش صورة التمثيل السياسي للثورة في هذا الوقت بالذات. غير أن هذه المآخذ قابلة للطعن، فالعديد من شخصيات المعارضة جرّب أساليب أخرى منذ تجربة المجلس الوطني العتيد، كانت هناك انتقادات علنية و «حرد سياسي» وانسحابات لم تنفع في ثني «الإخوان» وحلفائهم الإسلاميين عن الهيمنة على قرار المجلس الوطني ومن ثم الائتلاف. لذا بوسعنا تأويل البيان الموجه إلى الجامعة بوصفه معبّراً عن عجز تلك الشخصيات عن التأثير من ضمن المجلس والائتلاف، بالتالي توسل دعم الدول العربية النافذة للضغط على «الإخوان» ودفعهم إلى قبول مبدأ المشاركة الحقيقية. أولاً لم يأتِ تشكيل المجلس الوطني وفق أسس تمثيلية واقعية، حينها على الأقل لم يكن بارزاً في أوساط الثورة المزاجُ العام الذي يميل إلى التدين. مع ذلك بادرت شخصيات وقوى علمانية إلى تمهيد الطريق أمام مشاركة أساسية ل «الإخوان» ولشخصيات إسلامية مستقلة. آنذاك فُهم اختيار برهان غليون «العلماني» أول رئيس للمجلس على أنه تجسيد لتصالح «الإخوان» مع سورية المستقبل التي لا تهيمن عليها أية أيديولوجيا شمولية إقصائية، ولكن سرعان ما تبين أن اختيار غليون لا يرقى إلى مستوى التغيير الفعلي في عقليتهم، ومن ثم لم يأتِ اختيار عبد الباسط سيدا «من أصول كردية» أو جورج صبرا «من أصول مسيحية» سوى بتعزيز الفكرة السائدة عن شكلية المنصب وكونه مجرد واجهة، بينما القرارات الفعلية تُتخذ في مطبخ «الإخوان». لذلك قوبل انتخاب معاذ الخطيب رئيساً للائتلاف بارتياح كبير بوصفه إسلامياً وسطياً، على أمل التخلص من عقدة الرئيس الواجهة، أي التخلص من الازدواجية التي اعتمدها «الإخوان» بهيمنتهم من خلف الستار، ما أتاح لهم التحكم بالمفاصل الأساسية وفي الوقت ذاته عدم تحمل المسؤولية المباشرة عن السلبيات والثغرات التي شابت عمل المجلس والائتلاف. وكما هو معلوم لم يُشكّل المجلس الوطني، ولا الائتلاف من بعده، على قاعدة الانتخاب، فظروف الثورة لا تسمح بالحد الأدنى من عمليات الاقتراع. أسوة بتنظيمات أقل أهمية، وأقل تعبيراً عن مزاج الثورة، شُكِّل المجلس والائتلاف على قاعدة التوافق، ومن المفترض ألا تمنح هذه القاعدة أحقية مطلقة لأي طرف من المشاركين بادّعاء الأكثرية، لأن الأكثرية تتقرر ضمن هيئة منتخبة بالاقتراع الشعبي. من هنا يبدو عدم قبول الإسلاميين بوجودهم على قدم المساواة مع الآخرين مصادرةً لمبدأ التوافق، واحتكاراً مبكراً للسلطة ضمن زعم شرعية تمثيلهم لمزاج عام يميل إلى التدين، ودائماً على قاعدة الخلط المتعمد بين التدين الاجتماعي والخيار السياسي غير المطابق له بالضرورة. يُضاف إلى العامل الأخير، كما الأمر في تجارب إسلامية مشابهة، تلويح «الإخوان» بأنهم الفصيل الأكثر اعتدالاً ووسطية مقارنة مع تيارات جهادية متطرفة، كأنهم يكررون المقولة ذاتها التي اعتاش عليها نظام الأسد إذ روّج خارجياً لبقائه تحت لافتة عدم توفر سوى البديل الأصولي المتطرف. لن تحكم الأصولية سورية بعد سقوط الأسد، هذا ما تؤكده غالبية المعارضين في الرد على اتهام النظام للثورة بالتطرف، وهو اتهام بات مقبولاً على نطاق واسع في الخارج مع التركيز المتواصل على المساهمة العسكرية ل «جبهة النصرة» وأخواتها. لكن هذا التأكيد لم يفلح حتى الآن في ثني «الإخوان» عن مطامعهم في السلطة، وهي مطامع مشروعة عندما تأتي على قاعدة الانتخابات الديموقراطية التي يشارك فيها عموم السوريين، أما أن تأتي استباقاً للمرحلة الانتقالية فسلوك لا يَعِد أبداً باحترام إرادتهم ولا باحترام تعددية المجتمع السوري. بل إن هذه المصادرة الاستباقية بمثابة اعتداء على إرادة الأكثرية المذهبية أولاً، إذ ليس من حق أية جهة أن تدّعي تمثيل السنّة إلا ضمن اقتراع عام وفي نظام يقوم على المحاصصة الطائفية. لقد تخلى كثيرون من العلمانيين في سورية عن النظرة التقليدية التي تقصي الإسلام السياسي عن المشاركة، وتحمس العديد منهم لإعادة «الإخوان» إلى الساحة السياسية السورية بافتراض أن المشاركة هي السبيل الوحيد للتخلص من عقلية الاستبداد. هذا المنطق لا يعنيفي بأي حال التسليم المطلق ل «الإخوان»، وينبغي ألا يُفهم منه التنازل عن قيم الثورة التي أوجبت هذا التشارك، ويبدو أنها لم تؤثّر بعد في عقلية «الإخوان» وسلوكياتهم. حتى على الصعيد البراغماتي المباشر كان حرياً ب «الإخوان» السوريين الاستفادة من الدرس المصري، فاحتكارهم السلطة لن يؤدي إلا إلى انقسام مجتمعي يشلّ العملية الديموقراطية، ولا يمكّن سلطتهم من مزاولة مهماتها. العرب السنة لا يشكّلون في سورية سوى 60 في المئة من المواطنين، وينقسمون بين ولاءات مناطقية وقبلية ومصالح اقتصادية متباينة، ولم يعرفوا الانتظام ككتلة سياسية موحدة خلال تاريخ سورية الحديث، ومن المستبعد تماماً أن ينتظموا ككتلة متجانسة في أية عملية ديموقراطية. ما يقوله الواقع هو صعوبة نيل الإسلاميين بكل تياراتهم الغالبية المطلقة في أية انتخابات حقيقية، بالتالي لن يكونوا في وضع يسمح لهم بالاستفراد بالسلطة على غرار ما حصل في مصر. هذا لا يعني عدم قدرتهم على تعطيل العملية الديموقراطية ضمن ما هو متوقع من عدم انسجام التيارات الأخرى أو تحالفها، لكن ابتزاز القوى الأخرى لن يكون بلا نهاية أيضاً.