انتقلت أزمة تأليف الحكومة اللبنانية الجديدة الى طور جديد أمس باعتذار الرئيس المكلف تشكيلها سعد الحريري عن المهمة، بعد 73 يوماً على تكليفه وقيامه بسلسلة مشاورات واجتماعات مع أركان المعارضة اصطدمت بتضامنها حول مجموعة من المطالب التي طرحها زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون أبرزها توزير الوزير الحالي جبران باسيل وإسناد حقيبة الاتصالات إليه مجدداً من ضمن 5 حقائب لحصته الخماسية، فيما قدم الحريري تشكيلة تستبعد باسيل استناداً الى معيار عدم توزير الراسبين في الانتخابات النيابية وتسند الى وزراء تكتل عون 4 حقائب بينها 3 لوزراء «التيار الوطني» وواحدة للوزير الأرمني الحليف له، وتضم حقيبتين أساسيتين هما الأشغال العامة والتربية، إضافة الى وزارة دولة. وأوقف الحريري بخطوته هذه، بعد أن انتظر 4 أيام منذ تقديم تشكيلته الاثنين الماضي الى رئيس الجمهورية ميشال سليمان جواباً على التشكيلة التي اقترحها، المراوحة التي حكمت اتصالات التأليف على مدى الأسابيع الماضية، لعل اعتذاره يشكّل صدمة تنتج ظروفاً ملائمة أكثر لقيام حكومة وحدة وطنية لاحقاً. وإذ اعتبر محيط الحريري أن اعتذاره كان ضرورياً لوقف عملية استنزافه بعد هذه المدة من التكليف، فإن هذا المحيط رأى أن المفاوضات الأخيرة التي جرت بين زعيم تيار «المستقبل» وبين المعارضة أعطت انطباعاً بأن الهدف منها لم يكن التوصل الى تسوية حول الحقائب والأسماء بل الحؤول دون قيام حكومة وأن السبب إقليمي أكثر منه داخلي لتعليق الوضع اللبناني بالتناغم مع ما يجري على صعيد العلاقات الدولية – الإقليمية. وعكس الحريري هذا الانطباع حين قال في كلمة الاعتذار بعد لقائه الرئيس سليمان في قصره الصيفي في بيت الدين: «تبين لي أن لا نية لدى البعض للتقدم خطوة واحدة الى الأمام والخروج من المراوحة في الشروط التعجيزية». وذكّر بأن قناعته هي أن «حكومة الائتلاف الوطني حاجة وطنية»، معتبراً أن التشكيلة التي قدمها الى سليمان «فرصة حقيقية ضاعت في مهب الشروط»، لكنه تمنى أن يكون اعتذاره «مناسبة لكسر الحلقة المفقودة وإطلاق الحوار من جديد». وفيما نأت المعارضة بنفسها عن التسبب بالاعتذار قال باسيل إن «الحريري عجز عن تشكيل حكومة وحدة وفرض علينا شروطاً إخضاعية... وكسرنا هذا العنوان». وقال وزير العمل محمد فنيش (حزب الله) أن لا أحد يستطيع تجاوز مطالب المعارضة وهي تريد أن تكون شريكة فعلية بالثلث + 1 مباشرة أو غير مباشرة إذ أن صيغة 15+10+5 كانت الحد الأدنى». أما الرئيس سليمان فأشار مكتبه الإعلامي الى أنه «إذ قدّر للرئيس المكلف الجهود التي بذلها، فإنه اعتبر أن ما حصل يندرج في السياق الديموقراطي وسيدعو الى استشارات نيابية جديدة وفق الأصول الدستورية». وفي إفطار مساء أمس ذكّر الحريري أن لبنان يشكل حكومة جديدة لأن انتخابات نيابية جديدة جرت تحتم قيام هذه الحكومة ولأن هذه الانتخابات حتمت انتخاب رئيس للبرلمان هو الرئيس بري. وشرح جانباً مما حصل خلال فترة التفاوض على الحكومة، مؤكداً أن الأكثرية التي نتجت من الانتخابات قدمت تنازلات لكن كان هناك اعتقاد عند إخواننا في الأقلية أن الأكثرية التي تنازلت يمكن فرض شروط عليها وإلا لا تشكل حكومة... لكنكم تعرفون أنه مهما فعلوا هذه الأكثرية تبقى أكثرية وهي التي ستسمي رئيس الحكومة المكلف. وقال إن التشكيلة التي قدمها لرئيس الجمهورية «لم يكن حلفائي مسرورين بها وحتى تيار المستقبل لم يكن مسروراً لأنني قلت لنفسي إن على الجميع أن يضحي من أجل حكومة وحدة وطنية وليس أن يضحي فريق واحد، وهم تصرفوا على أن فريقاً واحداً يجب أن يضحي، فقلنا لهم نعتذر». نحن نعرف كم نضحي ولذلك هناك خط يجب أن نقف عنده لوقف التضحيات. وأوضح ان «ما حصل يجب ألا يؤثر بالاستقرار الأمني ويجب ألا يلعب أحد بأرواح الناس وأموالها. لكننا أنجزنا كثيراً خلال ال73 يوماً فأعدنا الحوار بين الأطراف المقطوع تقريباً منذ 3 سنوات، مع أمل وحزب الله والآخرين، وانفتح صديقي وحليفي وليد بك على الفرقاء وأنا أيضاً انفتحت عليهم. وجرت مصالحات في المناطق. وهذه إنجازات يجب أن نحافظ عليها وألا نخسرها بحصول الاعتذار». وتابع الحريري: «الآن ولكي نشكل حكومة يجب أن نهدأ قليلاً. والخطاب السياسي يجب أن يهدأ ونحن قادمون بعد أيام على استشارات. شرحت لكم ماذا حصل لكن نستطيع أن نقول الأمور بهدوء. وليس على طريقة نريد كذا وكذا وإلا. فهذه ال «وإلا» لا تنفع البلد وهي (عبارة) أدخلتنا في الحائط مرات كثيرة. ومن المستفيد من ذلك سوى العدو؟». وأكد أنه وجد أن مصلحة لبنان في أن «أعتذر لأنني أدركت أن التعقيدات هدفها عدم تشكيل حكومة، فلماذا تنازلنا ونتنازل مقابل عدم تشكيل حكومة؟ والآن لنعد الى الهدوء والى تسمية رئيس حكومة وكل فريق لديه الحق بأن يسمي من يشاء ولنر كل فريق من سيسمي ونأخذ الحصيلة من عند رئيس الجمهورية». وخاطب قادة المعارضة قائلاً: «نحن شركاء في الوطن وأنتم تتفاوضون مع لبنانيين وليس مع عدو، وحين نجلس الى الطاولة للتحاور نفعل ذلك كلبنانيين وكل واحد فخور بطائفته ومذهبه لكن الدولة لا تبنى بالطوائف والمذاهب». وأكد أن 14 آذار لن تفرّط بشهدائها. وقال: «ان لا مشكلة لأنني اعتذرت فأنا سعد رفيق الحريري إن كنت مكلفاً أم لا. وإن هناك حكومة في لبنان أم لا، فإن المحكمة الدولية ماشية والذي قتل الحريري وجميع الشهداء سيدفع الثمن». وفي رواية الساعات الأخيرة التي سبقت خطوة الحريري، قالت مصادر سياسية مواكبة لاتصالات اللحظة الأخيرة في شأن التأليف أن الأخير «قرر حسم أمره، في ضوء نتائج اجتماعه ليل أول من أمس مع المعاونين السياسيين لرئيس المجلس النيابي النائب في حركة «أمل» علي حسن خليل وللأمين العام ل «حزب الله» حسين خليل، وبالتالي شعوره بأن كل الأبواب أوصدت أمام الوصول الى تفاهم يضع حداً لاستمرار تأخير التأليف». ولفتت المصادر نفسها الى أن الحريري «رأى في ضوء الأجواء التي سادت الاجتماع أنه لم يعد من مبرر للتروي وعدم المبادرة الى الاعتذار من الرئيس سليمان عن عدم تأليف الحكومة، خصوصاً أن التمايز الذي كان قائماً بين «أمل» من ناحية وبين «حزب الله» وتكتل «التغيير والإصلاح» من ناحية ثانية، سرعان ما تلاشى بعد إصرارهما على أن يتمثل التكتل بخمس حقائب من بينها الاتصالات بذريعة أن تراجعه عن المطالبة بالداخلية يستدعي التعويض عليه بحقيبة بديلة». وكشفت أن «الخليلين،» لم يطرحا أفكاراً بديلة وأنهما «تمسكا بالمطالب نفسها التي عرضاها وحليفهما الوزير باسيل على سليمان». وقالت إن «كثيرين حاولوا ثني الحريري عن اعتذاره أو التمني عليه تأجيل قراره لأيام عدة لإعطاء فرصة جديدة لمزيد من الاتصالات علها تؤدي الى تفاهم يسرّع في ولادة الحكومة العتيدة». وأوضحت المصادر المواكبة لاتصالات التأليف أن «هناك من الأقلية من لم يقرأ جيداً موقف الحريري وراهن على أنه يرغب في الوصول بأي ثمن الى رئاسة الحكومة وأنه في الطريق إليها يستطيع أن ينتزع منه تنازلات تشكل انقلاباً على الطائف والإطاحة بالدستور والأسس المتبعة في تشكيل الحكومات». وتابعت: «هذا الفريق اعتقد بأن موافقة قوى 14 آذار على الإطار العام لتشكيل الحكومة انطلاقاً من توزيع الوزراء على أساس 15 للأكثرية و10 للأقلية و5 لرئيس الجمهورية، وتخليها عن المطالبة بثلثي أعضاء الحكومة أو نصف عددها زائداً واحداً وتسليمها بترك سلاح المقاومة للحوار والتوافق على الأمور الرئيسة وعدم إخضاعها للتصويت مؤشر للاستقواء على الرئيس المكلف وإرغامه على تقديم مزيد من التنازلات بدلاً من توظيفه لتأليف حكومة وحدة وطنية». وأكدت المصادر نفسها أن الحريري قال لا كبيرة في الوقت المناسب بعد أن نفد صبره. مع أن البعض في الأقلية كان يتعامل مع الإشارات التي أطلقها تحضيراً للاعتذار على أنها للتهويل والمناورة وأنه لن يقدم على الخطوة. وإذ اعترفت المصادر بتمايز «أمل» عن «حزب الله» و «التيار الوطني الحر»، قالت إن الرئيس بري اعتبر الصيغة الوزارية التي طرحها الحريري بأنها بناءة وأنه كان يرغب في المساعدة لكن حليفه «حزب الله» لم يلاقه في منتصف الطريق وحسم أمره بتبني كل مطالب العماد عون من دون أن يفتح الباب أمام البحث عن حلول وسط. وبالنسبة الى موقف الرئيس سليمان من الاعتذار أكدت المصادر عينها أن الحريري طلب الثلثاء الماضي موعداً للقائه وأن سليمان تروى في تحديده على أمل أن يؤدي تكثيف الاتصالات بعد دخول بري إضافة الى رئيس «اللقاء النيابي الديموقراطي» وليد جنبلاط على خط جهود إنقاذ التأليف لكن تحديد الموعد أمس جاء بناء لإلحاح الرئيس المكلف. وأكدت أن سليمان حاول أن يثني الحريري عن الاعتذار وأن يتروى حتى الاثنين المقبل علّه يعطي فرصة جديدة تقود الى تفاهم على الإسراع بالتأليف. إلا أن الرئيس المكلف، كما تقول المصادر، أبدى تفهماً لطلب الرئيس لكنه توجه اليه بالسؤال: «إنس يا فخامة الرئيس كل ما قمت به من أجل التوصل الى تفاهم مع الأقلية، إضافة الى المدة الطويلة التي أمضيتها وأنا على تواصل مع جميع الأطراف وتحديداً المعارضة. لكن هل هناك بصيص أمل، يدفعني الى التروي وأنت كنت شاركت مشكوراً في الجهود للتغلب على نقاط الاختلاف؟». وأكدت المصادر المواكبة أن سليمان أبدى تفهمه لكل ما قاله الحريري من دون أن يعطيه جواباً فغادر الاجتماع ليدلي ببيانه المكتوب. ومع اعتذار الحريري يُطرح السؤال عن الخيارات البديلة وهل سيكلف مجدداً في ضوء دورة الاستشارات الجديدة التي سيجريها سليمان مع الكتل النيابية بتشكيل الحكومة؟ المصادر المواكبة قالت إن مسألة التكليف والتأليف تقف أمام خيارات عدة مفتوحة على أكثر من احتمال. وعزت السبب الى أنه «من غير الجائز التسرّع في تحديد الخيار المناسب قبل أن يفرغ الحريري من تقويم الوضع ومراجعة المواقف مع فريق عمله ومن ثم مع جميع حلفائه وأبرزهم جنبلاط والرئيس أمين الجميل ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع. وهو كان اتصل بهم فور عودته من بيت الدين ومن بعدها مع كتلته النيابية. وزار رئيس حكومة تصرف الأعمال فؤاد السنيورة الرئيس سليمان بناء لموعد مسبق عصر أمس وقال: «كلنا يعرف كم عانى الرئيس المكلف على مدى 73 يوماً في حوارات واتصالات مكثفة وفي كل العقبات التي واجهها». وقال إن سليمان سيحدد موعداً للاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة الجديد، وسط توقعات بإعادة تسمية الحريري، وإمكان تأجيل هذه الاستشارات الى الاثنين ريثما يعود سليمان من المقر الصيفي الى قصر بعبدا، لعل الأيام الفاصلة تتيح بعض الاتصالات والمشاورات. ودعا السنيورة الى الابتعاد عن التشنج والتصريحات النارية مؤكداً أن الحريري سعى دائماً الى تخفيف الاحتقان. وأعلن السنيورة أنه سيرشح الحريري لتشكيل الحكومة «وعلينا أن نعيد المسألة الى مكوناتها الداخلية بعيداً من العوامل الخارجية». ورأى أن التأخر في التشكيلة الحكومية لا يوقف عجلة الحياة «ويجب ألا ننسى أن لبنان سينتخب عضواً غير دائم في مجلس الأمن وحضور الرئيس سليمان الجمعية العمومية للأمم المتحدة في غاية الأهمية وهو خير من يمثل لبنان».