إلى حين قريب كان كتاب ومثقفون عراقيون، يرحلون في المنافي بإحساس يكاد يكون متمحوراً حول كونهم يطوون آخر صفحات حياتهم بعيداً من بلادهم، التي ظلوا متعلقين بحلم عودة هانئة إليها. اليوم بدا الأمر على نحو أكثر رعباً، لجهة ان هذه البلاد باتت هي ذاتها مهددة في وجودها، لما تركته فيها الصراعات الدموية من تأثيرات ابلغ مما تتركه الزلازل والكوارث الكبرى من خراب ودمار. وفي لندن نعى الرسام والتشكيلي فيصل لعيبي، صديقه القاص والروائي محمود البياتي الذي رحل «بعد صراع مرير مع المرض الخبيث، فجر الجمعة 31 / 10 / 2014، الى الجهة الأخرى من الحياة، تاركاً لنا الحزن والألم، نحن اصحابه ومعارفه ومجايليه، كان رقيقاً وهادئاً وقليل الكلام ويتقن فن الإصغاء، لم اره غاضباً يوماً ولاتزال ابتسامته ووجهه البَشِر... عالقين بذاكرتي». البياتي المولود في بغداد العام 1949 لم يعش فيها الا قليلاً، بل فرّ منها مرتين، الأولى بعد انقلاب 1963 البعثي- القومي الدموي، حيث قتل قريبه الزعيم وصفي طاهر مع اول رئيس للوزراء في العهد الجمهوري، الزعيم عبد الكريم قاسم، حين امضى عاماً في بيروت، وعامين في براغ وبرلين، ثم عاد الى العراق في 1966، وما لبث أن غادر بغداد من جديد في 1974 بعد القبض على اعز اصدقائه وهو جواد هماوندي الذي اعدم في اليوم التالي مع حبيبته ليلى قاسم حسن وخمسة من رفاقه الشيوعيين. ليستقر في براغ عشرين عاماً، ثم لينتقل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الى السويد 1991. فاز بجائزة القصة العربية في بيروت عام 1981، وأصدر أول مجموعة قصص «اختراق حاجز الصوت» عن دار المستقبل العربي في القاهرة عام 1984، وأول رواية «رقص على الماء - أحلام وعرة» عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» عام 2006. ثم انتقل إلى المملكة المتحدة بعد إصابته بمرض السرطان حيث استقر في مدينة لندن. وإذا كانت قصصه ورواياته تتناول «معضلات وقسوة سوء الفهم المزمن بين الأفراد، أو بين الفرد والمجتمع، فضلاً عن عبث أقدار الحياة والموت والحب»، فإنه شخصية مزجت عميقاً بين مسار حياتيّ مأسويّ وصولاً الى مساء فجائعي عرفته بلاده، لكنه ظل على قيد الأمل، ضمن موجة من احلام مثقفيين عراقيين منفيين كانوا يمنّون النفس بنهاية آمنة في بلادهم بعيداً عن ظلال الديكتاتورية الثقيلة. وترى الكاتب والصحافية سلوى زكو انه «مع رحيل الكاتب اللامع محمود البياتي احس وكأن جزءاً ثميناً من جدار السبعينات قد تهاوى... كان محمود نموذجاً للمثقف السبعيني الصخّاب المتفجر بالأمل النابض بالحياة والباحث عن الحقيقة والمعرفة. بعد ان التبست الحقيقة غادرنا محمود الى الفضاء الأرحب باحثاً عن المعرفة والجمال». وهناك من يرى ان الإقامة الطويلة التي لا تخلو من كوابيس عراقية عاشها محمود البياتي في بلاد كافكا، ودراسته أدب صاحب «المسخ»، اسهمتا في وجود اثر «كافكوي» في مجموعته القصصية الأولى «اختراق حاجز الصوت»، فيكتب عنها القاص ابراهيم الحريري: «كنت أقرأ وأنا حابساً أنفاسي. لعلي كنت أريد ( له) ان يفقد صوته حتى النهاية، ويستمر في العواء حتى اللحظة الأخيرة، لكان الأمر اكثر كافكاوية لو صح التعبير». وهذا التأثير للإقامة الطويلة في المنفى، وجد عند البياتي حضوره في روايته الأولى «رقص على الماء - أحلام وعرة»، وعنها يكتب الروائي حمزة الحسن، أن «عالم محمود البياتي نفسه تحول منذ أن (اختار) منفاه منتصف السبعينات الى مجمّع أرواح وأمكنة وهويات تسعى من خلال الآخر، الصديق، الحبيب، النقيض، الجار، المواطن الجديد، الى البحث عن مشتركات وقواسم تصلح للعيش في هذا المكان الموحش وتحويله الى مكان نظيف حسن الإضاءة وعادل، لذلك فإن قول احد الكتاب عن محمود إنه: (عراقي المولد، تشيكي التفكير، روسي الشهية والمذاق...) هو قول لا يخلو من صحة رغم ان محموداً هو عراقي التفكير أيضاً». ويرسل الباحث في مجال السرديات والأستاذ المحاضر في جامعة الملك سعود بالرياض - كلية الآداب، ناصر الحجيلان، رسالة الى محمود البياتي يبلغه فيها: «قراءتي لك مبعث متعة وغبطة. اشعر بك انساناً مبدعاً يعيش قلق العالم بروح الفنان ووعي الفيلسوف. ولا بد أن أبيّن امراً مهماً له صلة بقصصك، فحينما كنت ادرس مادة «فن الكتابة» قي كلية الآداب، كانت بعض قصصك موضع الدرس والتحليل. وقد حظيت قصص مثل «عصيان» و «اختراق حاجز الصوت» و «في انتظار ما لن يحدث» باهتمام الطلاب وإعجابهم. وسأشرع في تأليف كتاب بعنوان: «فن الكتابة» يدّرس نظرياً وتطبيقياً أساليب الكتابة وطرائق التعبير في فن الرسالة وفن القصة وفن المقال، وستكون قصصك المذكورة من ضمن النصوص المدروسة». وتعود ملامح كافكا في الحديث عن أدب البيّاتي، فعن مجموعته القصصية «في انتظار الغريب» (2008) يكتب جورج جحا، في «رويترز» عن «سخرية تلتقط اللحظة فتجعلها نافذة تطلّ على الكابوس أو باباً له. وفي كتابته تصوير دائم للوحدة وآثارها في النفس والجسد وتصوير دقيق دائم الحضور للخيبات والتناقضات اليومية وللأمور المزعجة والغريبة أحياناً التي تلاحقنا وتقوى هذه الملاحقة عندما نحاول تجنبها. وخلال ذلك يجد في بعض ملامح أسلوبه وقسماته مشابه تعيد إلى الأذهان ومن دون انتقاص من هذا الأسلوب أسماء منها فرانس كافكا وأيضا «شقيق» كافكا الروحي صمويل بيكيت كما يقول البياتي». وإذا كان البياتي يكتب نصوصاً تقارب الشعر، لكن الراحل يصفها بأنها «كلام» وهو ما جاء عليه كتابه «كلام - الحب والوجود والثورة» 2009، فإنه كتب بعد عشر سنوات على الغزو الأميركي لبلاده، نصاً بعنوان «بعد الحرب» 2013 وفيه الكثير مما يختزل رؤاه وفكرته عن الوطن الذي سمّم حياته، ليس الحكم وحسب، بل حتى الإطار الفكري - السياسي المعارض الذي كان في جوهره وحركته، فيقول: سأكنّسُ العراقَ بالسَعَفِ/ وألقي إلى المزابلِ/ بقايا عظامٍ ودموعٍ وكبرياءْ. هكذا فعلَ كثيرونَ غيري/ بعد كلِّ حربٍ. هكذا فعل أجدادي مراراً بعدَ/ خراب آشورَ وبابلَ ونينوى، بعدَ خرابِ بغدادَ. سألقي إلى المزابلِ/ ما هو فائضٌ/ ما هو غيرَ ضروري لاستئنافِ الحياةِ. سألقي إلى المزابلِ/ حذاءً مرقَّعاً/ وحقائقَ كثيرةٌ ومواعظَ ومبادئَ. سألقي إلى المزابلِ «المنفستو الشيوعيَّ»/ ولوائحَ حقوقِ الإنسانِ/ وملاحمَ جلجامشَ وقصصَ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ. سألقي إلى المزابلِ ... كلَّ شيءٍ/ نعمْ ، كلَّ شيءٍ/ واحتفظُ فقط/ بذاكرةٍ لن تَنسى أبداً/ ما حدثَ».