على رغم ان الموقف الخليجي العام واضح إزاء المأساة اليومية التي يتعرض لها الشعب السوري من جانب النظام الاسدي الباطش، إلا أنه ما زال دون المستوى المطلوب. فبعد مرور ما يقارب سنتين ونصف السنة على اندلاع الثورة السورية لا يزال الموقف الخليجي من تلك الثورة يعكس حالة مفارقة وربما تناقضية يمتزج فيها التأييد القوي مع الدعم الخجول غير الفاعل. التأييد القوي يُترجم سياسياً وديبلوماسياً وإعلامياً. اما الدعم غير الفاعل فيُترجم من خلال التردد الكبير والتباطؤ في تقديم العون العسكري والنوعي الذي يؤدي الى تغير موازين القوى على الارض بين الثورة والنظام، مع استثناء الدعم الإغاثي الملحوظ والمهم. في مرحلتها الاولى بدت الثورة السورية مشابهة للثورة الليبية في مسارها الإجمالي، حيث الدعم السياسي والديبلوماسي الخليجي القوي للمعارضة والحركة الثائرة قاد إلى حشد اقليمي ودولي انتهى بدوره إلى تفويض اممي باستخدام القوة اوقفت بطش نظام القذافي وتهديداته بحرق المدن الليبية على رؤوس الثائرين. استراتيجية القذافي في مواجهة الحراك الشعبي آنذاك تمحورت حول «عسكرة» الانتفاضة الليبية وإنهاء شكلها السلمي تفادياً للسيناريوين التونسي والمصري حيث كانت سلمية الانتفاضات هي سلاحها الفتاك. لذلك اطلق النظام آلته القمعية بكامل ترسانتها ضد المحتجين العزّل وتظاهراتهم، وبالتوازي مع ذلك فتح مخازن الاسلحة الخفيفة لهم لجر الحركة الشعبية السلمية إلى الخيار العسكري، الذي يوفر للنظام مسوغ استخدام البطش العسكري الذي أخذ اقصى الأشكال الدموية. قاد ذلك كما نعلم الى حلقات متتالية من التطورات افضت الى التدخل الاممي العسكري. استراتيجية النظام السوري في قمع الثورة منذ بداياتها تشابهت مع تلك الليبية الى حد بعيد، وبخاصة في مسألة إنهاء جانبها السلمي (الخطير)، مُضافاً إلى ذلك توظيف اقسى درجات القمع ضد اي حراك سلمي بأمل وأده منذ البداية. اعتمد النظام على القبضة البوليسية الدموية التي استهدفت «تلقين» كل من تسول له نفسه الخروج الى الشارع، بهدف خلق مناخ رعب رادع لا يتيح اي فسحة للاحتجاج. فشلت تلك الاستراتيجية امام الإرادة المدهشة للسوريين الذين تمسكوا بسلمية ثورتهم شهوراً طويلة على رغم القمع الدموي الذي تعرضوا له. كان من المُتوقع ان يقود تفاقم قمع النظام الى تبلور موقف دولي مشابه لذلك الذي تبلور ضد نظام القذافي. لكن ما حدث على ارض الواقع ان الحالة السورية اندرجت في مسار خاص بها، بخلاف كل حالات الثورات العربية الاخرى، بخاصة بعد تلقيها الضربة الكبرى التي تمثلت في الموقف الروسي المتصلب الذي اعتبر المعركة السورية معركته الدولية لإثبات النفوذ وتكريس مكانة موسكو في عالم اليوم – بخاصة في ضوء الغضب الروسي إزاء ما اعتبرته موسكو الخديعة الغربية في توسيع التفويض الاممي للتدخل العسكري في ليبيا (يعني ذلك ان روسيا كانت ستستخدم الفيتو ايضاً ضد التدخل في ليبيا، ولو تم ذلك لبقي القذافي ونظامه حتى اللحظة ولكنا حتى الآن إزاء مذبحة اخرى في ليبيا). وهكذا، وإيجازاً لما صار معروفاً ولا يحتاج الى إعادة سرد، تسبب الموقف الروسي، وعبر استخدام حق النقض في مجلس الأمن، في إفشال المسار الذي كان من المُؤمل ان يكون الاقل كلفة والاقصر زمناً، وأدى ذلك بالتالي إلى حشر الثورة السورية في مأزق بالغ المأسوية، ومعه كل داعميها ومنهم الدول الخليجية. فمن ناحية، لا يمكن ان يعوض التأييد المعنوي والانساني والاعلامي وحتى الديبلوماسي (بخاصة مع انسداد المسار الأممي) اختلال ميزان القوى العسكري الكبير في ميدان القتال. فما هو قائم على ارض الواقع في نهاية المطاف تجسد في شكل صراع مسلح غير متكافئ، حيث مجموعات المعارضة التي دُفعت دفعاً الى استخدام السلاح وجدت نفسها تواجه جيشاً مدججاً وباطشاً ويحظى ايضاً بدعم لوجستي اقليمي (من جانب «حزب الله» وإيران والعراق) ودولي (روسيا والصين). وفي الخلفية الأعرض كان موقف الولاياتالمتحدة وأوروبا يتسم بالتردد والعجز ايضاً، ولم تُطرح فكرة التدخل الجدي لنصرة الشعب السوري لأسباب معروفة (كالخشية من فوضى ما بعد سقوط النظام، ووجود المنظمات القاعدية ك «النصرة» وأخواتها مما اضر بالثورة السورية وشوّه صورتها ايضاً). الموقف الغربي حدد سقفاً منخفضاً لدعم الثورة السورية، مختلفاً عن السقف الذي كان عالياً إزاء الثورة الليبية. وعلى رغم ان الغرب لم يكن يحتفظ بأية علاقات ودية مع نظام الاسد، إلا أن عوامل عدة لعبت لمصلحة النظام وكبلت التأييد الغربي للثورة بخاصة بعد ان أجبرها النظام على استخدام السلاح. العامل الأساسي الذي رسم حدود الموقف الغربي، وبخاصة الاميركي، تمثل في مستقبل أمن إسرائيل والخشية من فوضى ما بعد سقوط النظام او قيام نظام بديل عن الاسد يكون اكثر عدائية لإسرائيل من ناحية ومُسيطراً عليه من جانب الإسلاميين، او يُفسح لهم العمل في سورية. ومن ناحية عملية أدى التردد الغربي إلى إطالة امد الثورة ومنح النظام عمراً زمنياً اضافياً لملم فيه اوراقه وتمكن من عسكرة الانتفاضة السلمية وتبرير ضربها بشكل دموي وعنيف. والشيء المُفارق هنا هو ان الموقف الخليجي (والتركي ايضاً) التزم ايضاً بذلك السقف المنخفض، مما افقد السوريين فرصة التخلص من النظام بصورة سلمية وسريعة. وإذا كانت للولايات المتحدة حساباتها الخاصة في رسم سياستها وحدود دعمها للثورة السورية، وأهمها العامل الإسرائيلي، فإن من المُفترض ان تكون لدول الخليج حساباتها المختلفة، وأهمها التمدد الإيراني الفج. فهنا انخرطت ايران في دعم النظام بكل الوسائل بما فيها الدعم العسكري بشكل كامل وكاسح وغير متردد، مما عكس عمق الإصرار الإيراني على إبقاء دمشق تحت نفوذها المطلق. يُضاف الى ذلك انخراط كبير ومشابه ل «حزب الله» في الحرب بإسم النظام وضد الثورة. في اللحظة الراهنة يجب إعادة النظر في الموقف الخليجي من الثورة السورية في ضوء تطورين هامين. الاول هو الموقف الخليجي من الحدث المصري والإطاحة بحكم مرسي، والثاني هو استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي ضد المدنيين السوريين. في التطور الاول برز موقف خليجي واضح وحازم، تمثل بالتأييد القوي والدعم الفاعل للفريق السيسي والحكومة الانتقالية على الضد من الموقف الغربي الذي رأى في الإطاحة بمرسي انقضاضاً على حكم ديموقراطي منتخب. افترق الموقف الخليجي بشكل كبير عن الموقف الغربي ولم يلتزم أي سقف او توجه عام بهذا الشأن. بل ثمة تصريحات متواترة تطمئن الحكم في مصر الى ان الدعم الخليجي سيعوض اي قطع للمعونات الاميركية والاوروبية إن حدث. دعم من هذا النوع يعتبر دعماً فعالاً ويؤثر في موازين القوى ولا يلتزم بالموقف الغربي. على المنوال ذاته يمكن التساؤل عن ضرورة بروز موقف خليجي مشابه إزاء الثورة السورية، لا يلتزم السقف الغربي، ويكون هدفه إحداث تغيير حقيقي في ميزان القوى العسكري في الميدان. التطور الثاني وهو استخدام النظام الاسدي للسلاح الكيماوي وثبوت ذلك، الامر الذي يدخله في نطاق مجرمي الحروب. معنى ذلك ان ثمة مسوغاً اضافياً وقوياً يُضاف الآن يفرض نفسه على العرب جميعاً وعلى دول مجلس التعاون الخليجي خصوصاً، كونها الكتلة الاكثر فعالية في العمل العربي المشترك الآن، لاتخاذ موقف اكثر صرامة وحسماً. يجب ألا تمر جريمة استخدام الاسلحة الكيماوية من منظور الامن الاقليمي، وتحتم السياسة الدولية على الدول المجاورة لسورية ان تقوم بخطوات جدية خارج نطاق ما يقره مجلس الامن المُكبل بالفيتو الروسي. إذا جمعنا التطورين السابقين إلى حقيقة موضوعية وهي ان التمدد الايراني وإخضاع سورية له هو اخطر عملياً وبفارق كبير على دول الخليج من «الإخوان المسلمين»، فإن من المفروض والمتوقع رؤية موقف خليجي جديد وفاعل إزاء الثورة السورية. * كاتب وأكاديمي عربي Email: [email protected]