الهروب إلى الأمام هو العنوان الوحيد لما يجري اليوم في المنطقة. ليس لأن الكل يخاف الكل فقط. بل لأن الكل مجتمعين يخافون الحاضر. فحين تسمع طرفاً من الأطراف يشرح موقفه ودوره فهو يفعل ذلك بحكم ظروفه. فكيف بحوار بين رجلين خبِرا أن للظرف -كما للطبيعة- مواسمَ؟ وهو ما حصل في يوم من أيام التلاقي السعودي-الإيراني. يومها استقبل الشيخ عبدالعزيز التويجري الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني. طال الحديث وتشعب. غوص في التاريخ وسباحة في السياسة وحك ذهن في الاقتصاد، وصولاً إلى الدين. وجد الشيخان -إضافة إلى الألقاب والمهمات التي يحملانها- أنهما يتشاركان الهم نفسه. حينها ختم الرئيس رفسنجاني الحوار مخاطباً مضيفه باللغة العربية وبلكنة فارسية: «يا شيخ أنتو عندكم مجانين، ونحن لدينا مجانين». لم يعلم الرجلان أنه يوماً ما ستتحول هذه الجملة إلى حفلة جنون تصم آذان العقل وتعمي أبصار المبصرين. الأحداث الأخيرة على طول خط عكا-كركوك، وهو بالمناسبة الاسم الحركي لاتفاق سايكس بيكو، من شواطئ البحر المتوسط إلى عمق صحراء الشام أثبتت صواب نظرة الشيخين. مظاهر عنف وتهجير ترسم الحاضر كلوحة انتحار ملونة بالدم مظللة بالنار، لوحة تفننت في تجسيد الوحشية إلى درجة الذهول. مسار تفكيكي وتدميري يستمد زخمه من الفراغ السياسي الذي وصل إلى ذروته لحظة الانسحاب الأميركي من العراق. فالمنطقة تعيش اليوم حالاً من السيولة الإستراتيجية التي تستدعي بدورها أشكالاً من الاضطراب والفوضى. مخزون هائل من الحرمان والانقسام يسكن وجدان المنطقة. يرافقه خطاب استقطابي صاخب يحاصر مفهوم الدولة. والوعي يشكو ضياع البوصلة وسط قوة جذب الفراغ. كل هذا والمجتمع الدولي ضاغط. فحالة غير الاستقرار تناقض مبادئ العيش المشترك ما بين المصالح الدولية والثروات الطبيعية في المنطقة، ما يضاعف المأزق، الساحة مستباحة. عندها يبرز دور دولة الاحتلال الإسرائيلي وخبرتها في فن استباحة أراضي الآخرين. وفي حين يطل الماضي من باب النوستالجيا كبارقة أمل أمام الكل، فإنه يستعصي أن يكون رافعة للمستقبل. فالماضي القريب، وتحديداً القرن العشرين، لم يكتب التاريخ الاستمرار لأبرز مشروعين سياسيين: القومية العربية بفروعها المصرية والعراقية والشامية والإسلام السياسي على أنواعه. الأولى وجدت نفسها في تصادم مع شعار «مصر أولاً». الشعار الذي على أساسه وقع خليفة جمال عبدالناصر أنور السادات اتفاق كمب دايفيد للسلام عام 1979. والثانية خسرت المعركة بأقل من شعار وبكلمة واحدة هي «الإرهاب». وتستمر عملية مراكمة الخسائر إلى اليوم ولا يعلو صوت فوق صوت التكبير قبل جز الرؤوس. لا «أولاً» نفع ولا «الإرهاب» أفاد. ففي خلال أربعة أعوام من الجنون والجنون المتبادل لم تستطع أدبيات «الربيع العربي» إنتاج مشروع متكامل لها. ومعظم الأقلام «المتخصصة» لم تلتقط التحدي الذي تواجه المنطقة: الفراغ السياسي. بل ذهب الجميع إلى خطاب مبني على المزايدة الغرائزية. عندها تصدرت «النخب المزيفة» المشهد. هنا كان المقتل. يستحضر «المثقف» منهم بلغة استشراقية تجارب عانتها أمم وشعوب سابقة. فيما ينادي «رجل الدين» منهم بفرض نموذجه الاجتماعي السياسي على أنه معركة مقدسة. وفي معظم الأحيان لم تترك هذه «النخبة المزيفة» مجالاً ل«النخب الحقيقية» في إعادة التوازن لرأي عام متعطش. وسط غياب تام لأي مراجعة نقدية تجاه النتائج. هناك خلل في الخطاب لا ريب، فليس بالغرائز تحمى الأوطان. ولكن ليس هذا الخلل هو السبب الأوحد لهذا الجنون، بل ثمة سبب آخر أكثر جوهريةً. العقل الذي يصنع هذا الخطاب يعكس عمق الأزمة. عقلية حولت النخب من دور إلى أداة بيد المتغيرات السياسية. عقلية «النخب مزيفة» ارتضت لعب دور الأداة لوصفة جاهزة من دون ابتكار، خطاب فئوي حاد يرى الحل في صعود طرف عبر إلغاء الطرف الآخر من المعادلة. وعندما انحصر الأمر في الفضاء الإعلامي ما بين «مثقف» و«رجل دين» ظهرت صورة سلبية إلى درجة الجنون. المايسترو واحد: عقل يعرف كيف يتوضأ بالدم، ولكن لا يعرف كيف يصلي صلاة الجماعة، على حد تصوير مثل قديم. ليست الغاية تهديم موقع ودور النخب من مثقفين ورجال دين. وإلا نكون وقعنا في فخ العقلية نفسها بممارسة الإقصاء والإلغاء. وإنما الغاية هي الارتقاء إلى مستوى الحدث بخطاب لا يجعل من الوطن صنماً بل مظلة تقي الجميع شتاء الحاضر. خطاب يفهمه الكل ويحتاج إليه الكل. الدولة هي كلمة السر. فالأمن لا يصنعه المذهب، والرخاء الاقتصادي لا تضمن استمراريته القبيلة. وطبعاً البطولة ليست في معارضة الدولة كما يعتقد بعضهم، وبالتأكيد ليست في التزييف لها. للدولة كبرياء. بكل بساطة لا شيء يضاهي الخطاب الوطني. فكفاءة الفكر الوطني وجسارته كفيلتان بملأ الفراغ ولو إلى حين. المهم أن الكل يعيش مرضاً واحداً اسمه الفراغ، مرضاً يضعنا أمام مشهد يصبح عنده الحديث عن مشروع سياسي إقليمي جامع واقعاً، أو تتمة لأحداث متسارعة تصنعها تنظيمات مسلحة عابرة للحدود. وتقابلها جماعات مذهبية وعرقية تتسلح دفاعاً عن الوجود. فإن لم نسمع فعين العرب تشهد. بلاد الرافدين وبر الشام وحتى تخوم شبه الجزيرة العربية تشهد دماراً ممنهجاً إنسانياً وعمرانياً. وإذا كان علينا تأجيل البحث في أسباب الدمار، فإن أضعف الإيمان هو في تدبر نتائجه. فكلما طال أمد هذا الفراغ تجذَّر العنف وتعاظمت فظائعه. وبات واضحاً أن أوضاع الخط الافتراضي عكا-كركوك مختلة، إذ لم يعد الهامش واسعاً، فالمسافات ليست عازلة، كما يتصور بعضهم، والقضايا ليست منفصلة، كما يتمنى آخرون. المسؤولية هنا تقع على الجميع. فليس هناك مبرر لدرجة أعلى من الجنون الحاصل. * كاتب سعودي