لا يجوز أن نقف عند حدود المشهد الغوغائي، ولا عند هلوسات شخصية بطل المشهد، بل علينا أن نقارب هذا وذاك كعينة لتحليل ما هو أبعد منهما، أي ما يتجاوز الحد الزمني والحد الشخصي؛ لأن من الواضح أن هناك خللا عميقا ومزمنا يقف خلف كل هذا الرفض والتأبي والاستعصاء على كل محاولات التعقل والتحديث لا يفتأ المنافقون المُزيِّفون للوعي الجماهيري يُخَادِعون الجماهير عن حقيقتها، ويزعمون لها - كاذبين- أن وعيها هو أرقى وعياً وأكمله، وأنها تجاوزت حدود وعي المُفكرين، بل والفلاسفة الكبار، وبمراحل؛ لأنها (= الجماهير) - كما يدّعون - باتت أقرب إلى فهم الواقع من كل هؤلاء المشتغلين على هموم الفكر وعلى هموم الواقع، حتى ولو كان هذا الاشتغال اهتماما احترافيا يمتد لعقود. الجماهيرية أصبحت سلطة استبدادية، والجميع ينافقها الآن، ويمنحها أهلية الوعي اختصاصا. وبعضهم يترفق في نفاقه، ويدعي أن العقل الجماهيري كان ولا يزال بخير، وهذا أضعف الإيمان كما يتصور، مع أنه - كما يبدو - أضعف النفاق. هل صحيح أن العقل الجماهيري العربي بخير؟ وهل صحيح أن وعي الجماهير النزواتي الغرائزي النزق المتراقص - طربا أو غضبا - يتجاوز وعي أولئك المشتغلين بسياقات المعرفة هَمَّاً واهتماما؟ وهل يمكن - ولو في حالات استثنائية - أن يجاوز الوعي السياسي الذي يتوفر عليه رجل الشارع الذي لم يقرأ نظرية واحدة مكتملة في السياسة، وعي مفكر بحجم : عبدالله العروي - مثلا-؟ وهل يتساوى - مثلا- الحكم الذي يطلقه الباحث : حسن حنفي على تراثنا الكلامي، بالحكم الذي يطلقه إمام أو مؤذن مسجد الحي الذي لم يتجاوز وعيه حدود صفحات معدودة من رياض الصالحين؟!. يقول العقاد - متعجبا ومستنكرا- : يعتقد بعضهم أن حقه في إبداء الرأي يعني المساواة بين الآراء. واضح هنا أن العقاد ينكر المساواة بين الآراء ؛ رغم تأكيده على حق كل أحد في أن يبدي رأيه ؛ كحق إنساني طبيعي من ناحية، وكحق ديمقراطي (أي كحق تمنحه العضوية الاجتماعية) من ناحية أخرى. أي أن مفهوم النخبة حاضر ومفهوم، بل ومطلوب على مستوى الطرح المعرفي؛ حتى وإن كان يجب أن يغيب - تماما - على مستوى التعاطي الإنساني، وخاصة في مجال الحقوق والواجبات. أدرك أن بعض الذين يطرحون التبشير بعصر الجماهير، والذين يُراهنون على وعي الجماهير في التغيير والتقدم، أنهم لا يقصدون أن وعي الجماهير أفضل وأرقى وأصوب من وعي النخبة، وإنما قصدهم أن الجماهير ارتقت بوعيها - بفضل وسائل الاتصال الحديثة - إلى مستوى وعي النخب ؛ فزالت النخبوية بذوبانها في الطوفان الجماهيري، وأصبح هذا الطوفان أكثر فاعلية من تلك النخبة التي لم تعد تؤثر بعد أن ضاع صوتها بين الأصوات ؛ نتيجة قلة عددها التي تفرض محدودية تأثيرها. أدرك ذلك، ولكني أدرك خطأ هذا الاستنتاج الذي يراهن على توفر المعلومة وشيوعها، وليس على التغيير النوعي في بنية التصور وفي طريقة التفكير . وهذا الأخير هو التغيير الحقيقي الذي لايمكن أن يحدث في عقد أو عقدين من الزمان، وإنما يحتاج إلى (عصر تنوير) كامل؛ لنتمكن من رؤية تباشيره الأولى . ليس هذا تشاؤماً، وإنما هو حكم معرفي يستند إلى معطيات الواقع. لا أحد ينكر اليوم أن دراويش الوعظ الفضائي يقودون عقول وقلوب ملايين الجماهير في هذا العالم العربي الذي تجاوز عدده ثلاثمئة مليون، ومع هذا لا يطبع أفضل مفكر فيه أكثر من ألف نسخة من أفضل كتبه، بل وتبقى هذه النسخ أكثر من ثلاث سنين تتلاقفها المكتبات في عشرين دولة عربية، قبل أن يغامر الناشر بنسخة ثانية لا تتجاوز الألف أيضا!. ولمن يشكك في ضحالة هذا الوعي الجماهيري وهزالته، وقدرة المنافقين والمخادعين على التلاعب به، فليس عليه سوى أن يتأمل في مشهد استقبال الحكواتي في مصر ؛ حيث استطاع هذا الحكواتي (وهو مُهرّج من الدرجة العاشرة، مهرج لا يمتلك حتى تلك المهارات اللازمة للتهريج)، من التلاعب بعواطف ملايين الجماهير، لا من جماهير العامة فحسب، بل وحتى من أولئك الذين يرون أنفسهم نخبة السياسة ونخبة الإعلام، وربما نخبة الفكر!. عندما نقرأ هذا المشهد الهزلي الذي يعكس حقيقة تردي الوعي إلى الحضيض، فإن الحكواتي الذي مثل بطل المشهد ليس هو القضية، ليست الأزمة في وجوده (فكثيرا ما يوجد المهرجون والمخادعون والمحتالون)، وإنما طبيعة الاستقبال / التلقي هي الأزمة، أو - بتعبير أدق - هي ما يعكس حقيقة الأزمة. أي أن العطب / الخلل ليس في ذات الحكواتي، فهو حالة فردية لا تعني سلبيتها شيئا عندما لا تتجاوز حدودها، وإنما العطب / الخلل كامن في وعي الملايين التي تستهلك خطابه المسموم بكل الأكاذيب والخرافات والدجل المفضوح. إن هذا الاستقبال / التلقي له دلالته العميقة في قراءة ما يعانيه العالم العربي من تخلف وانحطاط وفساد واستبداد وغوغائية جماهيرية باتت تُقارب حدود الجنون . هذا الواقع المرير لم ينتج من فراغ، ولم يكن حالة عابرة يمكن تفسيرها بحدود ظرفيتها، وإنما هو واقع شامل ومزمن وراسخ، بل ومتنامٍ على حساب كل محاولات العقلنة والتحديث. لا يجوز أن نقف عند حدود المشهد الغوغائي، ولا عند هلوسات شخصية بطل المشهد، بل علينا أن نقارب هذا وذاك كعينة لتحليل ما هو أبعد منهما، أي ما يتجاوز الحد الزمني والحد الشخصي؛ لأن من الواضح أن هناك خللا عميقا ومزمنا يقف خلف كل هذا الرفض والتأبي والاستعصاء على كل محاولات التعقل والتحديث، وأن كل الجهود التعليمية والإعلامية والثقافية والإدارية التي أنفقت عليها هذه الشعوب المنكوبة الغالي والنفيس، كانت فاشلة - أسوأ ما يكون الفشل - في إنتاج جيل يتجاوز عصر الخرافة ولو بقليل. كيف تنفعل كل هذه الجماهير بخطاب كخطاب الحكواتي المتخم بالأكاذيب والنفاق والمراوغة، والمشحون بكل مستلزمات الهياج الأرعن؟ طبعا، لا يهم هنا كون الحكواتي يسعى لمجدٍ شخصي خاص، فقد بات واضحا أنه - رغم ضحالته العلمية وسذاجته العقلية - يعرف (أو عُرّف !) من أين تؤكل الكتف، بل ومن أين تؤكل عظام الرقبة أيضا، فضلا عن (الكوارع) التي كانت تراوده ذات حلم في ليلة ليلاء، فأكلها اليوم هنيئا مريئا. لا يهم - أيضا - كون هذه (الزفّة) مُرَتّبة - مسبقا - من قبل الرفقاء السياسيين؛ من أجل تحقيق هدف سياسي بات واضحا للجميع، وخاصة بعد أن صرّح الحكواتي في خُطبه (العصماء!) بضرورة دعم حكومة الإخوان، لا في المجال الاقتصادي فقط، وإنما في كل مجال، بل وصرّح بمنح مصر (وهو عندما يقول : مصر، فهو يقصد : مصر الإخوان - تحديدا - ؛ لأنه لم يدعُ إلى ذلك قبل حكم الإخوان) قيادة العالم الإسلامي. والمعنى الصريح والواضح هنا أن على دول العالم الإسلامي - حكومات وشعوبا - أن يدعموا حكومة الإخوان ابتداء، وأن يُتمّوا ذلك بأن يلقوا إليها بمقاليد القيادة طائعين، استنادا (وهنا تأتي المراوغة) إلى مكانة مصر التي يعترف بها الجميع (وهنا استثمار مكانة مصر لحساب الإخوان)، وليس استنادا إلى شرعية الإخوان التي كانت ولا تزال محل إنكار واستنكار. إن الحكواتي - من حيث هو سروري، نشأ وتربى وترقى على أيد سرورية خالصة، وتدرّج - مُنحَطَّاً - في دركات الغفوة المحلية، إلى أن أصبح فيه أسوأ ما في الإخوانية الخالصة، وأسوأ ما في التقليدية الأثرية الخالصة، أقول : إن الحكواتي من حيث هو كذلك، لابد أن يرى في حكومة الإخوان أرقى نموذج للحكم، باعتبارها نواة دولة الخلافة التي يتحرّق إليها دعاة الإسلام الإخواني ومشايعوهم في كل مكان منذ ثمانين عاما، واليوم يريدون فرضها - ولو بالقوة - على كل بلد يتنازل لهم عن استقلاله، بتقديمه استقالة عقل واستقالة ضمير واستقالة انتماء. إذن، خطبة الحكواتي - التي تناسلت خُطَباً مكرورة - لم تكن خطبة دينية بأي حال من الأحوال؛ حتى وإن كانت بلغة دينية صارخة. لقد كانت خطبة سياسية بامتياز. ومن هذه الناحية، لابد أن نعترف بأنها نجحت في أداء مهمتها في اللعب على عواطف قِطاع جماهيري غوغائي لا يزال يعيش عصر الشعارات الجوفاء. اليوم يعيش الإخوان أزمة خانقة في مصر، أزمة تكاد تعصف بما تبقى من شرعيتهم، حتى على مستوى مناصريهم الذين ناصروهم نكاية بحكومات الاستبداد وبذيول حكومات الاستبداد. حكم الإخوان في مصر يسير من فشل إلى فشل، لا على مستوى الاقتصاد والأمن فحسب (وهما العنصران الأساسيان في هذه المرحلة)، وإنما على مستوى إدارة العمل السياسي أيضا. وقد نتج عن ذلك غضب عام متصاعد، يوحي بأن أجل الحكم الإخواني بات قريبا. ولهذا، عندما يأتي خطيب إخواني فيخطب عن مصر (وهو يقصد : مصر الإخوان)، ويكون رد الفعل هياجا جماهيريا مُؤيدا ومحتفيا، ويدخل في جوقة الاحتفاء الغبي بهذا الإخواني المحترق - معرفيا وأخلاقيا - حتى أولئك الذين يحملون على أنفسهم مهمة التصدي لسياسات الإخوان، فإن الحكواتي الإخواني يكون قد نجح فعلا في مهمة الحشد التي يراد منها فك اختناقات سلطة الإخوان، أي فتح الطريق لمسيرة الاستبداد الإخواني. الإخوان معذورون - من ناحية المنطق السياسي -عندما رَوّجوا للحكواتي؛ بتعميم خطبه، وباستقباله استقبالا حافلا على المستويين: الرسمي والشعبي. لا أحد يلومهم على خوض اللعبة السياسية بكل ما هو متاح تحت أيديهم من أدوات مشروعة وغير مشروعة، والحكواتي من جملة تلك الأدوات، المشروعة واللامشروعة في آن !. التنسيق بين الحكواتي وقيادته الإخوانية في مصر كان واضحا إلى درجة لا أظن أنه محل إنكار، لا من قبله ولا من قبلهم . والخطبة - التي تناسلت خطبا - كانت بترتيب سياسيمسبق، انكشف (أو من المفترض أنه انكشف) للجماهير، وخاصة في الشطر الثاني من اللعبة (إحداثيات الزيارة والاستقبال : أي ما بعد الخطبة الأولى) التي كانت تتغيا اختطاف وعي الجماهير، و- للأسف الشديد - قد نجحت في ذلك نجاحا كبيرا بفضل اتساع رقعة الغباء الجماهيري في مصر، كما هي الحال في بقية الأقطار العربية التي وقعت في قبضة الوعاظ التقليديين . المفترض - على ضوء الوعي المفترض، وليس الوعي الكائن - أن الجماهير أفاقت بعد كل ما رأته من نشاط رسمي إخواني (= إخواني بالضرورة، حتى ولو صدر من غير إخواني)، يعكس حقيقية حراك سياسي مخادع. فبعد أن كشّرت اللعبة الإخوانية عن أنيابها، لم يعد لأحد عذر في أن تأخذه خيوط اللعبة الإخوانية إلى أن يتجرد من عقله بالكلية، ويقف راقصا رقصة هياج جنوني في حفلة الزار التي يدق فيها الحكواتي طبوله الصاخبة، فيتساقط (المَمْسُوسون!) بين يديه في حالة من غياب الوعي التام. وكما أن مأزق العقل الجماهيري يتجلى - بكل أعطابه المزمنة - من خلال انسياقه الأهوج وراء خدعة سياسية باذخة الغباء، فإنه يتجلى أيضا من خلال النظر إلى كونه استطاع استهلاك مفردات غوغائية وخرافية شكلت معظم الأفكار الواردة في خطبة / خطب الحكواتي عن مصر، إلى درجة صدّق فيها المصريون (-من حيث كانوا يريدون أن يصدقوا) خطابا نفاقيا مليئا بالتملق الممجوج من جهة، ومليئا بالخرافات والأكاذيب والتدليس من جهة أخرى. إن ما ذكره الحكواتي عن مصر (فضلاً عن كونه قد سرقه بالجملة، أي لم يتكلف حتى عناء تنسيق أكاذيبه) ينقسم إلى ثلاثة أقسام : 1- حقائق ثابتة بمنطق العلم أو التاريخ أو الدين. وكل ما ذكره الحكواتي في هذا القسم ليس شيئا جديدا، أي ليس مفخرة جديدة لمصر، لم تحصل عليها إلا بعد حكم الإخوان. كلنا يعرف ما ذكره، ونعي أنه كان موجودا قبل سنتين وقبل ثلاث سنوات وقبل عشر وقبل قرن ..إلخ، فما الذي جدّ الآن ؟! واضح أن الجديد هو حكم الإخوان، وأن هذه الحقائق لا يتم طرحها إلا عند الحاجة إليها سياسيا، وكأن مصر لم يرد ذكرها في القرآن إلا بعد أن حكمها الإخوان، والطور كان مختفياً ولم يُكتشف إلا بعد فوز الإخوان، وامرأة فرعون ...إلخ. 2- خرافات وأكاذيب، ومقولات تاريخية لا قيمة لها، ومبالغات لا تعكس إلا جنون قائليها. ولعل ما ذكره - مستندا على الأثر النقلي - من كون نهر النيل ينبع من الجنة يعكس حقيقة هذا العقل الخرافي، ويفضح خرافية من يُصدّقه . فهذه الخرافة (-حتى وإذ صحح الأثريون أثرهم فيها) كان يمكن أن تُخدع بها الجماهير قبل اكتشاف منابع نهر النيل في القرن التاسع عشر، وقبل أن يعرف الناس جميعا - وليس العلماء فقط - من أين تأتي كل قطرة من مياه النيل. يمكن التسامح مع التصديق بهذا يوم كان الناس ينسجون الخرافات حول الظواهر الطبيعية العظمى التي لا يستطيعون تفسيرها. أما الآن، فليس مجنوناً من يصدق بهذا فقط، بل حتى من يسكت عنه لتمرير مفخرة قومية يقع في دائرة الجنون. وللأسف، قد سكت كثيرون عن الحكواتي وهو يهرف بما لا يعرف كنهه ولا منتهى معناه !. (يتبع)