ما حدث في مصر بين 30 حزيران (يونيو) و3 تموز (يوليو) أثار الكثير من النقاش، فهل هو ثورة أم إنه انقلاب؟ أو هل هو ثورة قطفها العسكر أم انقلاب مغطى بحراك جماهيري؟ يبدو أن المشكلة الواقعية باتت تحل عبر هذا النقاش «النظري» (أو السفسطائي). ثورة أم انقلاب؟ والهدف هو تحديد موقف، لكن كيف يمكن أن نحدد أنها هذه أو ذاك؟ خصوصاً أننا نعاني من «تخبيص» في فهم المصطلحات، بحيث ينعكس الموقف الذاتي على معنى المصطلح بما يجعله خارجاً عن سياقه، ولا يعبّر عن المعنى الحقيقي الذي وُجد من أجله. فالمصطلحات هي عنصر التوافق الضروري من أجل الفهم المتبادل. لهذا طرح السؤال: ما معنى الثورة أصلاً؟ هل نتوافق على معنى الثورة؟ بالتأكيد لا، بالتالي كل النقاش يكون بلا معنى، بالضبط لأنه لا ينطلق من توافقات أولية هي المصطلحات التي نستخدمها، والتي من دون التوافق على معانيها لن يكون ممكناً التفاهم أصلاً. في كل الأحوال، بالنسبة لي الثورة هي كل تمرّد شعبي على السلطة من أجل تغييرها، بصرف النظر عن النتيجة. والانقلاب هو دور العسكر في تغيير السلطة (أو الرئيس). طبعاً، لم يثر هذا النقاش بعد ثورات تونس ومصر على رغم دور العسكر حينها، حيث واجه الشعب القوى القمعية للسلطة (البوليس السياسي في تونس والأمن المركزي في مصر)، وتدخلت قيادة الجيش لكي تفرض رحيل الرئيس. في مصر استطاعت الملايين التي نزلت إلى الشوارع يوم 25 كانون الثاني (يناير)، ومن ثم 28 منه خصوصاً، أن تهزم الأمن المركزي وكل قوى وزارة الداخلية، فاستطاع الشعب احتلال ميدان التحرير وميادين أخرى في مدن عدة (الإسكندرية، بورسعيد، الإسماعيلية، السويس، المنصورة ومدن كثيرة أخرى)، ظل مقيماً فيها إلى يوم 11 شباط (فبراير)، تحت عنوان «اعتصام، اعتصام، حتى يسقط النظام». الآن، كان واضحاً أن الجماهير التي نزلت إلى الشوارع يوم 30 حزيران هي أكبر من أكبر حشد حدث ضد حسني مبارك، وكان يوم 11 شباط، حيث جرى تقديره حينها بأنه وصل إلى 23 مليون مصري. بالتالي فإن الرقم 30 أو 33 مليون مواطن الذي قيل إنه نزل يوم 30 حزيران صحيح إلى حد ما. لكن الجيش تقدّم وأعلن تنحية محمد مرسي، وحجزه. ومن ثم عين رئيساً موقتاً، هو رئيس المحكمة الدستورية العليا، الذي أصدر إعلاناً دستورياً من دون مشاورة القوى، وبدأ بتشكيل حكومة جديدة. سياقان لسقوط مرسي هنا يمكن متابعة سياقين أوصلا إلى سقوط مرسي، السياق الأول يتمثل في الحراك الشعبي الذي تصاعد بعد انتخابه ، وشمل حركات احتجاج شبيهة بما كان يجري آخر أيام حسني مبارك، من الإضرابات إلى الاعتصامات إلى التظاهرات إلى قطع الطرق في الأرياف. وكان واضحاً أن الأزمة المجتمعية تتفاقم، وأن حراك الشعب يتصاعد في شكل لافت، بما في ذلك النقمة على «الإخوان»، من منظور أنهم وعدوا بحلول لمشكلات الشعب ولم يحققوا شيئاً، على العكس من ذلك زادت المشكلات. وهذا واضح من السياسة الاقتصادية التي اتبعها مرسي، والتي هي استمرار لسياسة حسني مبارك، من حيث الحفاظ على الاقتصاد الليبرالي، والاعتماد على القروض كحل لمشكلات الاقتصاد، والخضوع لشروط صندوق النقد الدولي، ورفض رفع الأجور كما كان يطالب الشعب في 25 يناير (أي أن يكون الحد الأدنى للأجور هو 1200 جنيه). وكذلك زادت مشكلات عدة فرضت على الطبقات الشعبية التحرك. هذا الأمر الأخير أوجد حالة لم تشاهد ضد حسني مبارك، فهذا الأخير كان يبدو مستبداً أفقر الشعب، ولهذا كان يجب أن يزول. بينما زاد على ذلك أن الحكم الجديد يتحدث باسم الإسلام، ويؤكد أن «الإسلام هو الحل»، وأنه يمتلك الحل. لكن، تبيّن أن كل ذلك لم يكن سوى تغطية للوصول إلى السلطة، والسعي لاحتكارها، واحتكار نهب الاقتصاد وفق الآليات ذاتها التي كانت قائمة زمن حسني مبارك. وربما كان الإحساس بأن السلطة التي يسعى مرسي (و «الإخوان» من خلال حزب الحرية والعدالة) إلى فرضها هي العودة بمصر إلى الوراء، إلى القرون الوسطى. وهذا ما كان يلمس في السياسات الخفية التي كانت تمارس، وفي طبيعة ممارسة الحكم، التي أظهرت أن هؤلاء غير جديرين بسلطة دولة كمصر. وأنهم وفق «النظام المعرفي» الذي يحتكمون إليه (وهو نظام فقهي متخلف) لا يستطيعون سوى إعطاء صورة لسلطة قروسطية. بالتالي كان واضحاً بأن الحشد سيكون هائلاً حتى قبل يوم 30 حزيران. فقد جمعت حركة تمرّد ما ينوف عن 22 مليون توقيع يطالب بتنحية مرسي، وكان واضحاً التفاعل الهائل مع الحركة من قبل قطاعات شعبية واسعة. سواء بالاستعداد لجمع التواقيع أو بالحماسة للتوقيع. وهذا ما ظهر يوم 30 حزيران، اليوم الذي حددته حركة «تمرّد» لإسقاط مرسي. وسنلمس بالتالي أن كتلة شعبية هائلة كانت تريد رحيل مرسي وإنهاء حكم «الإخوان المسلمين». وأن هذه الكتلة عبّرت عن ذاتها في حركة احتجاجية ضخمة استمرت إلى يوم 3 تموز. هل كان باستطاعة الجيش مواجهة هذا الحشد الهائل؟ لا أظن على الإطلاق، وأعتقد أن قرار الجيش، بصرف النظر عن نواياه المسبقة، ارتبط بحجم الحراك أصلاً. بالتالي من يلحظ حجم الحراك يعرف أنه لم يكن باستطاعة الجيش مواجهته، خصوصاً هنا أن الريف لأول مرة يتحرك بقوة (وهذا ما لم يحدث ضد حسني مبارك)، وهو الأمر الذي كان يجعل الجيش (ذوي الأصول الريفية، وأيضاً الأمن المركزي الذي هو من أصول ريفية كذلك) غير قادر على الصدام مع الشعب، وكان سيدفعه أي ميل للصدام إلى الانشقاق والانضمام إلى صف الشعب. لكن، لا بد من القول إن قيادة الجيش لم تكن تريد نجاح محمد مرسي، وإنها كانت تفضل نجاح أحمد شفيق، وقد بذلت مجهوداً كبيراً لضخ أصوات هائلة. خصوصاً بعد أن لمست أن «الإخوان» يميلون للهيمنة الشاملة فلم يكتفوا بالسيطرة على مجلسي الشعب والشوري (بدعم من الجيش)، بل قرروا أخذ الرئاسة كذلك، في سياق اتفاق سابق، كما يبدو، أن تكون الرئاسة للجيش. وبصرف النظر عمّن حصل على أعلى الأصوات، مرسي أو شفيق، من حدّد الرئيس هو الضغط الأميركي الذي كان يريد «الإخوان» في السلطة، كونهم «قوة من الشارع» وتستطيع التعامل مع الشارع، في وضع يفرض إنهاء الثورة وحسم الصراع بتكريس البنية الاقتصادية السياسية القائمة. بينما كان المجلس العسكري يعتقد أن مواجهة الشارع تستلزم توافق الرئيس معها. لكنها تحت الضغط الأميركي سلمت ب«الإخوان». وأمام الميل المتسارع ل «الإخوان» للسيطرة على الدولة، وفرض «أزلامهم» في المواقع الحساسة، كان يبدو أن قيادة الجيش (التي عينها مرسي بالتوافق كما يبدو مع المجلس العسكري) لم تعد راضية باستمرار مرسي. وهذا ما جعلها تميل إلى الحياد في صراع الشعب مع حكم «الإخوان»، وتظهر أحياناً ميلها للشعب. وربما شجعت الحراك كله، وأظهرت «عدم عدائية» لنزول الشعب إلى الشوارع، لكن حسمها الصراع كان يرتبط بالضبط بحجم الحراك ذاته.