في حديث عابر مع بائعة خضار في أحد أسواق القاهرة أكدت لي في ثقة وحسم أن الرئيس مرسي سيغادر الحكم... لكنها لا تعرف من سيأتي بعده «ويمسك البلد»... ثم استدركت: «الجيش كويس». فكرت في كلماتها ووجدت أنها تعكس حال غالبية المصريين الموزعين بين الرغبة في التمرد على الأوضاع القائمة والتي أصبحت وبكل المقاييس أسوأ حالاً من مصر قبل الثورة، وبين الخوف من غموض المستقبل وعدم وجود بديل عن حكم الرئيس وجماعة «الإخوان». تلك الغالبية الموزعة لا تخاف من السلطة أو الشرطة، ولديها ثقة في نفسها وقدرتها على إزاحة الرئيس – الفرعون، لكنها تخشى من تكرار سيناريو كانون الثاني (يناير) 2011، بمعنى عودة الجيش إلى الحكم والدخول في صراع مع العسكر، كما تخشى أيضاً صراعات وانقسامات النخب المحسوبة على الثورة وعدم اتفاقها على مرشح رئاسي واحد باسم الثورة في حال إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ثم إن تلك الغالبية الشعبية والمتركزة في المدن تخشى من العنف، خصوصاً أن «الإخوان» وبعض حلفائهم من الجهاديين السابقين لوحوا بإمكانية استخدام العنف للدفاع عن شرعية الرئيس المنتخب ومؤسسات الدولة، كما أشهروا سلاح التكفير في وجه كل من يتظاهر أو يعتصم ضد الرئيس الذي يقود من وجهة نظرهم المشروع الإسلامي. سلاح التكفير لم يعد يجدي مع الغالبية الناقمة، والتي تعاني مشكلات البطالة وتدهور الاقتصاد وغياب الأمن وتدهور الخدمات، إضافة إلى سقوط صدقية كثير من الدعاة ورجال الدين المرتبطين ب «الإخوان» وجماعات الإسلام السياسي، فقد أدى دفاعهم عن سياسات الحكم وتبرير أخطائه إلى الابتعاد عن مقاصد الدعوة والشرع، وبالتالي تراجع رأس المال الرمزي والقوة المعنوية لجماعات الإسلام السياسي في الشارع، حيث فشل الرئيس وحكومته في تنفيذ برنامج المئة يوم الأولى في حكمه، وكذلك تنفيذ البرامج والوعود الانتخابية في العام الأول، ولم يعد من المنطقي تحميل عصر مبارك أو الفلول مسؤولية غياب الأمن وانقطاع التيار الكهربائي ونقص المحروقات واستمرار تدهور الاقتصاد. غالبية المصريين وبحسب عديد من استطلاعات الرأي العام سحبت تأييدها للرئيس وحكومته وجماعة «الإخوان»، لكنها لا تثق كثيراً في قدرة شباب الثورة أو جبهة الإنقاذ على تقديم بديل مناسب يستطيع إنقاذ البلاد من عثرتها، لذلك لا بد من التمييز بين الاستياء أو رفض استمرار الرئيس وجماعته وبين تحويل هذا الاستياء إلى فعل سياسي، فقد يوقع البعض على استمارة حركة «تمرد» (النسخة الجديدة من إبداعات شباب الثورة)، لكنه قد لا يشارك في التظاهرات والاعتصامات التي تدعو إليها الحركة وجبهة الإنقاذ يوم 30 حزيران (يونيو) وهناك ملايين من الغالبية الصامتة (حزب الكنبة) التي تؤيد وتتابع باهتمام الخطاب النقدي والتعبوي على شاشات الفضائيات الخاصة، من دون أن توقع على استمارة «تمرد» أو تشارك في التظاهرات والاعتصامات. لذلك فإن حشد وتحريك الملايين في 30 حزيران هو التحدي الكبير الذي يثبت صدقية وفاعلية حركة «تمرد» وجبهة الإنقاذ، وهنا لا يمكن توقع السلوك السياسي للمصريين على نحو دقيق، ومن غير المؤكد أن يشارك العشرة ملايين الذين تدّعي حركة «تمرد» أنهم وقعوا على مطالبها، لكن أيضاً من المحتمل أن يشارك أكثر من عشرة ملايين متظاهر. القصد أن كل الاحتمالات والسيناريوات واردة، مع صعوبة تغليب حدوث واحد منها أو بعضها الآن، فقد تتبلور في الساعات وربما الأيام الأولى قبل 30 حزيران، كذلك من الصعب تماماً ضمان سلمية التظاهرات في ظل تهديدات بعض المنتمين للتيار الإسلامي، ورغبات بعض شباب الثورة في احتلال بعض إدارات الحكم المحلي واستخدام العنف وقطع الطرق لخلق حالة من الفوضى قد تدفع الجيش للعودة إلى الحكم. عودة الجيش إلى الشارع لها معنيان: الأول، انقلاب على شرعية رئيس منتخب وهو أمر يثير مقاومة داخلية ورفضاً دولياً، ويحول الجيش إلى لاعب في صراع سياسي بالغ التعقيد، لأنه يدور في إطار مجتمع منقسم على نفسه يعاني من استقطاب ثقافي وسياسي. الثاني: قمع التظاهرات وفض الاعتصامات التي يخطط لها الثوار، وهو ما يصب في مصلحة الحفاظ على الشرعية المهزوزة للرئيس. والحقيقة أن هذه الشرعية تمثل أهم الأوراق التي يعتمد عليها الرئيس وجماعة «الإخوان» في التعامل مع الشارع والمعارضة والجيش والحليف الأميركي، والذي لديه من النفوذ الموروث من عصر مبارك والمتجدد في عصر «الإخوان» ما يؤكد دوره في تحديد مستقبل الرئيس والبديل عنه في حالة نجاح حركة «تمرد» في استكمال الحراك الثوري والذي انطلق في كانون الثاني 2011 من دون أن يحقق أهدافه. الجيش وأوراق أخرى عدة يمكن أن تلعب بها واشنطن في حال نجاح تمرد الشارع، بحيث يمكن التوصل إلى بديل يستوعب الحراك الشعبي ويحقق الاستقرار، وهنا تبدو مشكلة واشنطن في عدم وجود بديل عن «الإخوان» في هذه المرحلة، يستطيع توحيد صفوف المعارضة حوله وكسب الشارع، والحفاظ في الوقت نفسه على مصالح أميركا ورؤيتها للمنطقة، وفي مقدمها الصراع السني الشيعي، والتي يبدو أن «الإخوان» والسلفيين قد التزموا بها، ومارسوها فعلياً تجاه سورية وإيران. اعتقد أن حيرة واشنطن إزاء ترتيب أوضاع مصر وعدم وجود بديل هي أحد أهم مصادر قوة الرئيس و «الإخوان»، يضاف إليها انقسامات المعارضة واختلافاتها الفكرية وجمود نخبتها وأطماعها والتي تتجسد في تهميش الشباب والجري وراء وعود أو مناصب يلوح بها الرئيس. في هذا السياق تحاول الرئاسة شق صفوف المعارضة، وإنتاج خطاب دعائي يربط بين الدعوة للتظاهر والتمرد في 30 حزيران وبين «الفلول» ومحاولات إعادة إنتاج نظام مبارك والتآمر على الثورة، فضلاً عن محاولة تمتين تحالف الرئاسة و «الإخوان» مع الجماعات الجهادية وبعض السلفيين، واستباق تظاهرات «تمرد» بتظاهرات لنبذ العنف وتأييد الرئاسة. والمفارقة أن الجهاديين السابقين الذين مارسوا العنف والإرهاب في التسعينات هم الذين يدعون ويحشدون لتلك التظاهرات! بينما أعلنت الدعوة السلفية وذراعها السياسية حزب «النور» عدم المشاركة في هذه التظاهرات، وتأييدها لاستكمال الرئيس المنتخب سنوات رئاسته، على رغم معارضتها لبعض سياساته. عموماً اتسم موقف الدعوة السلفية بقدر كبير من النضج السياسي والرغبة في تأكيد الاستقلال عن «الإخوان» والمعارضة المدنية، لكن يبدو أن المواقف الوسطية لن تفيد أصحابها في ظل مناخ الاستقطاب والصراع الذي يسود المجتمع، أما موقف الدعوة السلفية وحزبها «النور» فقد اعتُبر من وجهة نظر جبهة الإنقاذ موقفاً إيجابياً، بخاصة أنه يكرس فشل الرئاسة و «الإخوان» في تشكيل جبهة واسعة من القوى والجماعات الإسلاموية. وبغض النظر عن حسابات أطراف الصراع فإن المشكلة التي قد تقود مصر إلى كارثة هي أن الكل يفكر ويتعامل بمنطق المباراة الصفرية، فالحكم و «الإخوان» يهمشون المعارضة ويستحوذون على مؤسسات الدولة، ما ولد في المقابل فكراً وسلوكاً استحواذياً لدى المعارضة، يطمح في الإطاحة بالرئيس وحكومته. من هنا ثمة مخاوف من: 1- عدم اتفاق شباب الثورة والمعارضة على هدف التحركات الجماهيرية في 30 حزيران وهل هي محاولة لاستنساخ 25 يناير في غير سياقها التاريخي وظروفها الموضوعية؟ وهل سيكون من الأجدى توحيد كل الجهود من أجل إسقاط الرئيس و «الإخوان» أم التحرك أيضاً ضد «الفلول» والعسكر. 2- استخدام العنف واتساع نطاقه ودخول مصر في مرحلة فوضى واقتتال داخلي قد تصيب الجيش والشرطة. 3- عدم وجود رؤية واضحة لمرحلة ما بعد مرسي، والتي قد تنتهي بالضغط عليه لإقناعه بضرورة التخلي عن الحكم وإجراء انتخابات مبكرة، أو الاستمرار في الحكم مع تشكيل حكومة تكنوقراط تتولى إجراء انتخابات برلمانية في أقرب وقت، بعد تعديل قانون الانتخاب وتغيير النائب العام. وأعتقد أن الحل سيظل إلى حد كبير في يد الرئيس وجماعته لأن التظاهرات والاعتصامات ليست بديلاً عن شرعية الصندوق، لكن عندما يتسع نطاق التمرد وعدم الرضا وتصل البلاد إلى حافة الحرب الأهلية، فإن ذلك يعني سقوط شرعية الصندوق، والدخول في انتخابات مبكرة. وهنا تبرز المسؤولية السياسية والأخلاقية للرئيس وجماعته، وقدرتهم على التنازل والتوصل إلى حلول وسط. وهنا تكمن المشكلة لأنهم أثبتوا أنهم ليسوا رجال دولة، وليسوا سياسيين، لأن الأوهام الإيديولوجية والخطاب الدعوي يهيمن على إدراكهم وسلوكهم السياسي، بدليل أنهم لا يرغبون ولا يعملون من أجل استباق الأحداث والتداعيات الخطيرة ل 30 حزيران، وتقديم حلول سياسية قد تنقذ الجميع وتحافظ على مصالح البلاد والعباد. * كاتب مصري