في التاسع والعشرين من حزيران (يونيو) المنصرم، افتُتح «مقام» متحفاً للفنون المعاصرة والحديثة على هضبة خضراء تدعى «عاليتا» بين مدينتي جبيل والعاصمة اللبنانية بيروت. وعلى رغم ما لهذا المتحف من أهمية تاريخية، كونه يضع حجر الأساس لمركز ثقافي وإبداعي وسياحي، كان لبنان - ولا يزال- في أمسّ الحاجة اليه. تغيّب الإعلام المكتوب، وغاب المرئي والمسموع عن مواكبة الحدث، بسبب التوتر الأمني وتراجع الاهتمام بكلّ ما ليس له علاقة ب «الأزمة»! يشكّل افتتاح «مقام» مناسبة لاستعادة واقع الحركة التشكيلية في لبنان، في ضوء تشتّت حصادها في المهاجر والمغتربات، ناهيك عن ضياع الكثير من كنوزها في الحرب الأهلية، فما عدا متحف سرسق ومعارضه الموسمية ليس للفن التشكيلي اللبناني مرجعية ثابتة ولا لأعمال فنانيه موئل على الأرض: «آن الأوان لتكون لدينا مؤسسة جدية تجمع وتؤرشف وترصد وتؤرخ لفنوننا التشكيلية . أقول ذلك وفي الحقيقة أننا تأخرنا كثيراً في تنفيذ مشروع «مقام»، لكنّ المباشرة بدأت والتأخير بات من الماضي»، هذا ما يقوله سيزار نمور، رائد «مقام» وقد منح المتحف عشرة آلاف متر مربع من الأرض في عاليتا بينها أربعة آلاف تحتوي على بناء جاهز للتحول من مصنعين للورق والدهان والطبشور الى متحف بمواصفات عالمية يشمل، بالإضافة إلى الأعمال الفنية والوثائق مكتبة ضخمة تضم مؤلفات متعددة اللغات حول الفنون التشكيلية، خصوصاً تلك المتعلقة بلبنان والعالم العربي، وهذه أيضاً منحها سيزار نمور ل «مقام». أمضى سيزار نمّور أكثر من نصف قرن في متابعة نقدية حثيثة للفن التشكيلي في لبنان، وأصدر عدداً من المؤلفات القيّمة تناول فيها أعمال الرواد والمجددين على حد سواء. ومنذ سنتين أسّس مكتبة في شارع مونو في بيروت أطلق عليها اسم «ريكتو فيرسو» ضمت ألفي عنوان من الكتب الفنية، وشهدت «تواقيع» كتب وندوات تطورت الى سلسلة محاضرات شارك فيها مثقفون محليون ووافدون من العالم العربي والغرب. ودأب، مع رفيقته الألمانية غابرييلا شوب، على تنظيم معرض سنوي للكتاب الفني في وسط بيروت التجاري تخلله منح جوائز لمصممي الكتب الفنية والأدبية على أنواعها. من جهة أخرى نظّم الثنائي شوب- نمّور سوقاً للكتب في شارع مونو (يقام في السبت الأول من كل شهر)، شارك فيه أدباء وجامعو مؤلفات متنوعة الى جانب الناشرين وأصحاب المكتبات. وكان لطلاب الفنون الجميلة حصتهم من الاهتمام، فنظّم سيزار وغابرييلا رحلتين للتبادل الطالبي بين الجامعة الأميركية في بيروت وأكاديميتي برلين وميونيخ. لكنّ «مقام» هو مسك الختام وزبدة التجربة في مسيرة سيزار نمور. بل هو خلاصة أحلامه، علماً أنّ المشروع مغامرة خطيرة تحتاج في تحقيق هدفها إلى عمل مؤسساتي، مهني، متشعب المجالات... وفي الوقت الراهن لا يمكننا القول إن المساهمين والمتبرعين يتهافتون على تحرير الشيكات لدفع «مقام» الى الأمام، إلا أن الخطوة الأولى من مسيرة الألف ميل تحققت بنجاح على رغم الظروف الصعبة، وشعر زائرو المكان بجدية المشروع وأهميته. رعا حفلة افتتاح المتحف وزير البيئة ناظم الخوري، ابن منطقة جبيل ونائبها السابق، وتحدث الوزير بعفوية وبساطة عن أهمية المشروع وعن سروره لوجود المتحف في منطقته، ودعا المؤسسات والشخصيات الرسمية والمدنية إلى الالتفاف حول «مقام»، خصوصاً أنه مشروع ضخم يستدعي إقامة مؤسسة على المستوى العالمي بعدما بلغ عدد كبير من فناني لبنان شهرة واسعة خارج الحدود. واعترف ناظم الخوري بوجود تنافر ملحوظ بين السياسيين والفنانين بصورة عامة، لعله ناتج عن رسوخ الاعتقاد لدى الفنانين والمثقفين بأنّ دولتهم في واد وهم في واد آخر، وأمِل الخوري في أن تتغيّر تلك النظرة السلبية لأنها لا تفيد أحداً بشيء في النهاية. وتضمّن الافتتاح توزيع الجوائز على طلاب الهندسة ممّن شاركوا في مسابقة «تحويل مصنع إلى متحف» التي نظمها «مقام». وعيّن لتقويم الأعمال المشاركة فيها مهندسون ذوو خبرة طويلة في هذا المجال. سلّم الوزير الفائزين جوائزهم وانطلق الجمهور إلى الداخل لمشاهدة المشاريع المعروضة إلى جانب أربعمئة منحوتة وتركيبات تشكيلية لستين فنان من كل الأجيال. وجرى تقسيم الأعمال بحسب موادها الأولية: الخشب،المعدن، السيراميك، والتركيبات المتنوعة التي بدأت تحتل حيزاً ملحوظاً في نتاج الفنانين الشباب.