يختصر المخرج والممثل والمؤلف المسرحي والتلفزيوني جيرار أفيديسيان في معرضه التشكيلي «أسلاف وحريم»، رحلة عمر فنية محفوفة بالأسفار بين أرمينيا أرض أجداده، ولبنان موطنه، وباريس والاتحاد السوفياتي سابقاً حيث تلقّف ألف باء المسرح، والمغرب العربي الذي استوحى من نسائه وجوه لوحاته، إضافة الى تركيا وإيران ومصر. تمثّل كل لوحة في هذا المعرض الذي افتتح أول من أمس في غاليري عايدة شرفان (وسط بيروت)، بطاقة سفر الى مهرجان تاريخيّ جماعي لبلاد الشرق. فجيرار الذي فاجأنا بموهبة إضافية بعد أكثر من نصف قرن على عمله المسرحي، يستعير من التاريخ قصصاً لمحاربين أرمينيين مثل المقاتل الشهير أنترانيك، ويُضفي عليها منمنات قد تكون رسوماً لسجادة إيرانية أو طبقاً فرعونياً مصرياً أو تطريزات شامية أو مزركشات كردية. وقد يُبحر الى المغرب العربي ليستعير وجوه نسائه الجميلات وعيونهن المكحّلة الساحرة وقوامهنّ الممشوق، ويصنع لوحة من الأكريليك والكولاج معتمداً أكسسوارات مختارة بعناية ودقّة. فيشعر الناظر إليها كأنه في حضرة حكاية من حكايات «ألف ليلة وليلة» أو حيال مسرحية غنائية تضجّ بالموسيقى والإضاءة والرقص التعبيري. ستون لوحة مفعمة بالحياة تكاد شخصياتها تنطق لإشباعها بالألوان المزركشة بالمنمنمات التي تغلب عليها الألوان الترابية واللون الأحمر الأرجواني. أما الأكسسوارات المستخدمة مثل الدانتيلا والأقمشة المطرّزة والخرز واللؤلؤ والحلي والخواتم والسوارات والقبعات والأحزمة ذات الليرات الذهبية التي يعلّقها جيرار أفيديسيان على لوحاته، فتعطي الشخصيات حيوية لافتة. ويأتي الأكريليك وخطوط العيون المكحّلة والحواجب لتُحدّد هوية هذه الشخصية وجذورها. اختيار أفيديسيان فن الكولاج مع الرسم بالأكريليك كان ماهراً في هذه الأعمال التي يعرضها للمرّة الأولى في لبنان، وسبق أن عرض بعضاً منها في دار الفنون في الكويت. وقد استطاع من خلال هذين النوعين مزج معالم لحضارات مختلفة من القرن التاسع عشر بخفّة وبراعة، أبرزتا جمالية التراث الشرقي والأفريقي. ولكن لماذا ظهرت موهبة الفن التشكيلي عند أفيديسيان وهو في السادسة والستين من عمره؟ يكشف الرجل اللطيف والقارئ النهم للتاريخ، أنه بدأ يرسم في الثانية عشرة بالقلم الرصاص والفحم. ثم نمت موهبته سنة بعد سنة عقب تربية بصرية اتبعها ليطوّر حسّه التشكيلي من دون تصميم ليكون رساماً وإنما ليبقى هاوياً. «عندما كنت في باريس والاتحاد السوفياتي كنت أحرص دوماً على زيارة المعارض والغاليريات التشكيلية والفوتوغرافية. وما زلت متابعاً لهذا النوع من الفنون الذي طالما أثار فيّ شغفاً ما»، يقول. ويضيف: «كنت أرسم لوحات وأهديها لأصدقائي فقط. لم أكن مقتنعاً بأنني فنان تشكيلي مئة في المئة. كنت هاوياً. وعشقي للإخراج والتمثيل سرق مني كل الوقت فلم أتفرّغ للفن التشكيلي». في العام 2005 ألحّ عليه أحد أصدقائه ليتقدّم بلوحة «الجندي الصغير من سميرنا» للاشتراك في معرض «صالون الخريف» الذي ينظمه متحف سرسق. ففازت اللوحة المستوحاة من التراث الأرميني، وكانت مفاجأة لأفيديسيان نفسه ولجمهور المعرض الذي يعرفه ممثلاً ومخرجاً. «منذ ذلك الحين تشجّعت واعترفت بنفسي كتشكيلي وثابرت على الرسم»، يقول. وهذه اللوحة التي سترافقه في معارضه كافة، هي الأحب إلى قلبه ولا يبيعها البتّة. وعن هذا المزج بين التاريخ والحضارات في لوحاته، يقول أفيديسيان انه مولع بجمع الصور القديمة، ولديه منها المئات خصوصاً تلك الملتقطة في أرمينيا والبلاد العربية والاسلامية في القرن التاسع عشر بالأبيض والأسود. «استوحيت من هذه الصور شخصياتي، وحاولت أن أرسم وجوهها كما هي، مع إضافة من خيالي وبعض المنمنمات المستوحاة من العهد السرجوكي والمملوكي والبلاط الفارسي والتطريز العثماني».