أزمة الثورة والدولة في مصر عميقة وشاملة، ولا تقتصر على المجال السياسي وإنما تشمل الاقتصاد والثقافة والأخلاق. باختصار تعيش مصر بعد عامين من رحيل حسني مبارك أزمة مجتمعية تهدد كيان الدولة وأمنها القومي. الأحزاب المدنية والإسلاموية، شباب الثورة، الجيش، الأزهر والكنيسة... الكل يعترف بالأزمة ويحذر من أخطارها، لكنهم وعلى الطريقة المصرية لا يعملون أو يتعاونون لاحتواء آثارها والتعلم منها، والأخطر أنهم لا يدركون قيمة الوقت وأهمية التحرك السريع، لذلك فإن الأزمة تتضخم وقد تتحول إلى كارثة فالانقسام والاستقطاب تعمقا، والنخبة السياسية أثبتت فشلها، وبوادر العنف المادي واللفظي تلوح في الأفق بل إن بعض مظاهره تحولت إلى ممارسات وحقائق ودماء أمام القصر الرئاسي وفي ميادين الثورة. في هذا السياق يمكن التوقف عند أربعة رهانات ضمن الأزمة المصرية: أولاً- الرهان على الوقت: على عكس ما تفرضه طبيعة الأزمة فإن كل الأطراف السياسية تراهن على الوقت، وتسعى إلى تحقيق أهدافها كاملة غير منقوصة وفق نموذج المباريات الصفرية، ومن دون استعداد لتغيير استراتيجيات ووسائل العمل السياسي، فالرئيس محمد مرسي وجماعته يسعون إلى التمكين و «أخونة» الدولة والمجتمع في وقت قصير ووفق نظرية الأسلمة الشاملة وخلق حقائق جديدة في مؤسسات الدولة، أو في الواقع السياسي. من هنا، كان الحرص على إصدار دستور جديد غير توافقي، ونقل صلاحيات التشريعية لمجلس الشورى ثم الدعوة إلى انتخابات برلمانية يراهن «الإخوان» على الفوز بها، وينطوي رهان الرئيس و «الإخوان» أيضاً على فرضية ضعف وتفكك جبهة الإنقاذ وإرهاق القوى الثورية الشبابية، وإقصاء المرأة، فمع مرور الوقت وظهور حقائق جديدة على الأرض ستتراجع قوى المعارضة السياسية والثورية وتتآكل شرعيتها في الشارع الذي يتوق للاستقرار وتشغله لقمة العيش. لكن مثل هذه الرهانات الخطية صعبة وحرجة للغاية ولا يمكن من في السلطة الثقة بها، لأن تجاهل مطالب المعارضة والشارع وسع من دائرة المعارضة (تراجع التأييد للرئيس إلى 53 في المئة في استطلاع أخير) ودفع بعض الجماعات الشبابية لاستخدام العنف، تحت دعوى أن «الإخوان» استعملوا العنف ضد المعتصمين أمام قصر الرئاسة، كما أن الرئيس لا يستجيب لمطالب المعارضة ولا يطرح مبادرات حقيقية لاحتواء الأزمة، لكن أهم من خطاب المعارضة أن الرئيس وحكومته وجماعته فشلوا في تحقيق إنجازات اقتصادية أو اجتماعية تخلق ما يمكن وصفه بشرعية الإنجاز لتدعم شرعية الصندوق الانتخابي التي يعتمد عليها الرئيس. كل الأرقام تؤكد تفاقم أزمة الاقتصاد وارتفاع الأسعار وزيادة معاناة المواطنين، ما يخلق بيئة مناسبة وداعمة لقوى المعارضة وشباب الثورة الذين تجاوزت تحركاتهم جبهة الإنقاذ. من هنا، تراهن المعارضة أيضاً على الوقت للكشف عن تعثر الأداء السياسي للرئيس وفشل حكومته ومن ثم النجاح في تحريك كتل جماهيرية غاضبة لإسقاط الرئيس (استنساخ 25 يناير) أو إجراء انتخابات جديدة وفق أهداف شباب الثورة، أو الفوز في الانتخابات البرلمانية وفق أهداف شيوخ جبهة الإنقاذ. ثانياً- الرهان على الفوضى: يحذر الحكم والمعارضة (الإنقاذ والشباب) من تحول الأزمة إلى فوضى تهدد كيان الدولة، ومع ذلك فإن الممارسات الفعلية لكل الإطراف قد تقود إلى الفوضى، أي إننا إزاء رهان غير واع وغير معلن على الفوضى، فالأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة، وفشل الرئيس وحكومته في طرح مشروع نهضوي يمنح المصريين الأمل قد تفجر انتفاضة جياع، كبيرة ومدمرة، والحقيقة أن بوادر تحركات الجوعى والمهشمين ظهرت في الكثير من تظاهرات شباب الثورة والاشتباكات مع الشرطة، حيث يخوض هؤلاء حربهم الخاصة مع الشرطة وضد المصالح الحكومية بعيداً من توجيه أو سيطرة شباب الثورة أو جبهة الإنقاذ. واللافت أن هذه الحروب الخاصة انتقلت من القاهرة إلى الكثير من مدن القناة والدلتا. وإذا كانت قدرة المعارضة (الإنقاذ والشباب) على حشد كتل مليونية وتحريكها قد تراجعت فإنها اعتمدت استراتيجية الضغط المتواصل على الحكم من خلال حشود صغيرة ونشطة تتظاهر أمام القصر الرئاسي وتحتل ميدان التحرير وتقطع الطرق ما يكشف عن عجز الدولة، وربما عدم تعاون كثير من مؤسساتها مع الرئيس والحكومة. لكن خطورة استراتيجية شباب الثورة أنها تقود إلى الفوضى، وتقلص من مشاركة الطبقة الوسطى في التظاهرات، وتسمح لجيوش الجوعى والمهمشين – 40 في المئة من المصريين تحت خط الفقر - وربما بعض الأطراف الخارجية للعمل بحرية ودفع الأمور إلى الأسوأ، كالهجوم على أقسام الشرطة والسجون وحرق مقار «الإخوان» وحزبهم، وهنا قد يبادر «الإخوان» إلى الدفاع عن مقار أحزابهم أو قصر الرئاسة على نحو ما حدث في الأسابيع الأخيرة، ما يقود لحرب أهلية. ثالثاً- الرهان على الجيش: لا يمكن استبعاد الجيش من الرهان على الوقت أو الفوضى، فهو لاعب رئيس على رغم اختفائه المحسوب عن مقدم المسرح السياسي، وعلى رغم مرارة المرحلة الانتقالية التي قادها المجلس العسكري بعد خلع مبارك. لا شك في أن فشل طرفي الحكم والمعارضة في إدارة الدولة وإنقاذ أوضاع الاقتصاد قد دفع بكثير من المصريين إلى مراجعة مواقفهم إزاء دور العسكر في السياسة بل وظهرت مقالات تناشد الجيش التدخل لمنع الفوضى وحماية الأمن القومي، والحقيقة أن قطاعات واسعة من المصريين ترى في عودة الجيش إلى الحكم ضماناً أكيداً للحفاظ على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية ومدنية الدولة. في هذا الإطار ترحب غالبية جبهة الإنقاذ بالاعتراف بدور معلن ومحدود للجيش في السلطة، عوضاً عن الصيغة الغامضة للتفاهم بين «الإخوان» والجيش والذي لم تمس مصالحه في ظل رئاسة مرسي، لكن حدود مشاركة الجيش في السلطة غير واضحة، ويبدو أن ضغوط الاقتصاد وربما انتفاضة الجوعى أو سيناريوات الفوضى هي ما ستحدد صيغة مشاركة الجيش أو عودته إلى الحكم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وفي كل الأحوال فإن العلاقة بين عودة الجيش للسلطة والتحول الديموقراطي تظل إشكالية كبيرة، كما أن هناك قيوداً على استخدام الجيش قوته في مواجهة المدنيين، أو حتى في مواجهة «الإخوان» فقط في حال وقوع صدام بينهم وبين الجيش، ويجب ألا ننسى أبداً أن الشعب المصري تغير بعد الثورة وأنه من الصعب قمعه أو بيع الاستبداد له مقابل الأمن والاستقرار ولقمة العيش. رابعاً- الرهان على إضعاف الحكم والمعارضة ودفعهما للتعاون: يراهن بعض العقلاء في مصر - هم أقلية الآن – وأطراف دولية وإقليمية على أن الصراع بين الحكم والمعارضة وحال الاستقطاب والانقسام تستنزف قدراتهما وستدفعهما للتفاوض والتعاون المشترك، فالرئيس وجماعته غير قادرين على استكمال مخطط التمكين أو تحقيق شرعية الإنجاز، في ظل المعارضة المجتمعية والأزمة الاقتصادية والضغوط الخارجية، بينما الانتخابات البرلمانية على الأبواب وبالتالي يصعب ضمان الفوز بها أو حتى الحفاظ على نسبة المقاعد التي حصل عليها «الإخوان» في البرلمان المنحل (43 في المئة تقريباً) ولا يمكن تعويض تراجع شعبية «الإخوان» بالتحالف مع السلفيين لأنهم يعانون المشكلة نفسها كما أن هناك خلافات سياسية وفقهية معهم. علي الجانب الآخر فشلت جبهة الإنقاذ في الحصول على مكاسب سياسية أو تنازلات من الرئيس، كما تعثرت محاولات توحيد صفوف الجبهة وتجاوز الخلافات والأطماع بين أطرافها، وبالتالي فإنها قد تكون على وشك الانهيار ما يدفع بالقوى المحافظة داخلها بقيادة عمرو موسى والوفد للبحث عن تسوية سياسية خصوصاً أن شباب الثورة تجاوز في أهدافه وتحركاته على الأرض السقف السياسي للجبهة وبات يهدد مصالح القوى المحافظة. إذاً، هناك أسباب ودواع كثيرة تدفع طرفي الحكم والمعارضة إلى الحوار والتعاون الإجباري إذا جاز القول، لكن يبدو أن الطرفين ينتظران نتائج الانتخابات البرلمانية والتي لا ينتظر أن تحل الأزمة بل ربما تفجرها، خصوصاً إذا ما ارتبطت بأحداث عنف أو اتهامات متوقعة بالتزوير والتلاعب في نزاهة الانتخابات، وتجدر الإشارة إلى أن جبهة الإنقاذ تهدد بالمقاطعة لأنها ترفض قانون الانتخابات وتشكك في حياد الرئيس وحكومته. لذلك، يمكن أن يلعب الجيش من الآن دوراً في دفع طرفي الأزمة إلى التفاوض والتعاون المشترك، ما يحافظ على الأمن القومي ويمنع تورط الجيش من جديد في الحكم، لأن حكم العسكر سيواجه بمعارضة شباب الثورة أو ربما «الإخوان»، كما أنها صيغة غير مقبولة دولياً، لكنها ستظل الخيار الأخير في حال حدوث فوضى. * كاتب مصري