في البداية حكاية قد لا تبدو صلتها بفيلم «الصدمة» واضحة تماماً: في أواسط سنوات الخمسين من القرن العشرين، تسلل صحافي مصري مقدام يدعى إبراهيم عزت، إلى داخل ما كان لا يزال يسمّى بكل جدية وحماسة «فلسطينالمحتلة»، ليقوم هناك بجولة مدهشة بعد أقل من عقد من «ضياع فلسطين» عاد منها بكتاب عنونه «كنت في إسرائيل». انتشر الكتاب حينها على نطاق واسع وصدر في طبعات عديدة واعتبر «فضحاً» للصهيونية وما إلى ذلك. ولقد روى الصحافي يومها في مقدمة كتابه، كيف أنه حصل على جنسية أرجنتينية واسم مستعار مكَّناه من ذلك التسلل. لم يعترض أحد في ذلك الحين على ما فعله عزت، بل استُقبل استقبال الأبطال، واعتُبر كتابه مرجعاً.. مع أن مكتب «مقاطعة إسرائيل» كان لا يزال نشطا لم يغرق في سباته العميق بعد. بعد ذلك بنحو ستين عاماً، «تسلل» إلى داخل ما بات يدعى بكل «موضوعية» و «أريحية» إسرائيل، المخرج اللبناني حامل الجنسية الأميركية زياد دويري، ليحقق هناك فيلمه الروائي الطويل الثالث «الصدمة» -وفق الترجمة غير الدقيقة المعتمدة في العربية-. في البداية لم يخيّل إلى المخرج أن السجال والمنع سيطاولان الفيلم لمجرد أنه دخل «الأراضي المحتلة». كان يريد لفيلمه نفسه أن يثير السجال ويفتح أسئلة وجروحاً، لكن ما أتيح لإبراهيم عزت في الخمسينات أُنكر على دويري في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فكان أن أُوقظ مكتب مقاطعة إسرائيل من نومه ليمنع الفيلم في إجماع عربي مدهش: 22 دولة عربية منعته، أي اكثر من عدد الدول التي وقفت إلى جانب الشعب السوري ضد نظام يذبحه واحتلال إيراني يدمّره. وللتاريخ، سيبقى أن المسؤولين العرب رأوا أن فيلم «الصدمة» أخطر على القضايا العربية من تدخل حزب الله وإيران ضد الشعب السوري. رأوا أن دخول سينمائي عربي إلى إسرائيل لتصوير فيلم عربي تدور أحداثه فيها، شيء آخر غير تعامل محطات التلفزة العربية اليومي مع مسؤولين إسرائيليين ورجال استخبارات فيها وتعيين مراسلين بمرتبات تُدفع بالشيكل الإسرائيلي. كل هذا بالنسبة الى العقل العربي الراهن، طبيعي... مَن الرابح ومَن الخاسر من ناحية الربح والخسارة، قد لا يكون دويري وفيلمه الخاسرين الأكبرين، فالفيلم يعرض الآن في أنحاء عديدة من العالم ويلقى إقبالاً في الصالات كما بيعت نسخه إلى نحو خمسين بلداً ومنطقة حتى الآن. ولنضف إلى هذا أيضاً أن قطر، التي كانت -وفق المخرج- ساهمت بستين في المئة من كلفة إنتاج الفيلم، منعته بدورها، ولكن قال مسؤولوها إنهم لا يريدون استعادة ما أنفقوه...! ومع هذا، لا بد من أن نذكر هنا أن «الصدمة» كان فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان مراكش السينمائي في المغرب قبل شهور. أما بالنسبة إلى ردود الفعل النقدية عليه، فإن كتّاب الصحف الكبرى ونقّادها في العالم، لا يتوقفون منذ عرضه العالمي الأول في مهرجان تورنتو عن مدحه وإعطائه علامات عالية، معتبرينه -الى جانب قوته السينمائية التعبيرية- واحداً من الأفلام العربية القليلة التي تريد أن تثير نقاشات حقيقية من حول بعض القضايا الشائكة المرتبطة بالقضية الفلسطينية... بل كذلك بقضية القضايا في أيامنا هذه، قضية الإرهاب. وهنا لا بد من أن نقول منذ بداية الانتقال الى الحديث عن الفيلم لا عمّا يحيط به، إنه فيلم يقف حقاً على حبل مشدود، وإذ نقول هذا نسارع إلى التوضيح بأننا لا نعتبر هذا الوقوف ضعفاً في الفيلم بل قوة له.. نحن الذين نتطلع منذ زمن بعيد إلى أن يحل إبداع السؤال الشائك والصعب محل فنون اليقين السهل والمريح. لقد حان أوان الأسئلة... بعد أن مارسنا الإجابات الواثقة والجاهزة عقوداً من السنين. وربما كان هذا بالتحديد ما يمكن المرء أن يخرج به من «الصدمة»، كما سنفصّل بعد سطور. طبيب ناجح وزوجة غامضة في هذا الفيلم، الذي اقتبسه دويري ومشارِكته في كتابة السيناريو جويل توما بتصرف وحرية من رواية معروفة للكاتب الجزائري ياسمينا خضرا صدرت العام 2005، تطالعنا حكاية الطبيب الفلسطيني أمين الجعفري، الذي على رغم أنه من فلسطينيي الضفة ويعيش ويعمل في تل أبيب، مثله مثل الألوف من فلسطينيي الداخل، تمكن بدأبه وكفاحه من أن يؤمن لنفسه مكانة داخل المجتمع الإسرائيلي كجرّاح ناجح، وتمكن من أن يحقق مستوى عيش متميز لنفسه ولزوجته الحسناء. ونحن نشهد معه عند بداية الفيلم حفلاً تكريمياً كبيراً يقام له ويمنح فيه جائزة إسرائيلية كبيرة. ولئن استبد بنا العجب لغياب زوجته عن الاحتفال، فإننا سرعان ما سننسى ذلك الغياب، إذ نجد الرجل محوطاً بأصدقاء ومعجبين حقيقيين. لاحقاً سنعرف سرّ غياب الزوجة، ولكن قبل ذلك سيستدعى أمين الجعفري إلى المستشفى على عجل، لأن تفجيراً انتحارياً وقع في تلك الأثناء في مطعم أسفر عن سقوط قتلى وجرحى. يقوم أمين بإنقاذ الجرحى حتى من دون أن يطرح على نفسه تساؤلات... لكن تساؤلات من نوع آخر سوف تنطرح عليه ليلاً، حين سيستدعى إلى المستشفى مرة أخرى، إنما هذه المرة لإعلامه أن زوجته قتلت في التفجير، وأن عليه أن يتعرف الى جثتها في المشرحة. يفعل ذلك طبعاً وسط صدمته وحزنه القاتل ويبدأ في استعادة بعض ذكرياته معها غير قادر على تصديق أنها رحلت هكذا. غير أن هذا سيبدو هيّناً أمام الصدمة التالية: أمام الاستدعاء الجديد، من قبل الشرطة هذه المرة، زوجته هي التي نفذت العملية الانتحارية، التي أسفرت عن مقتل 17 شخصاً، بينهم 11 طفلا كانوا يحتفلون بعيد ميلاد أحدهم في المطعم المستهدف. هذه المرة يرفض أمين التصديق كلياً. لا يمكن أن تكون زوجته الفاعل، فهذا الإرهاب هو -عادة - من فعل المتشددين الإسلاميين، وزوجته ليست متشددة، ولا حتى مسلمة، إنها مسيحية، ومنذ أن تعرّف عليها لم يبد عليها أي اشارة تنمّ عن استعداد ما لفعل ما تتهمها الشرطة به. وأثناء ذلك، سيكون الكل تقريباً قد تخلوا عنه، ستكون حياته قد باتت على وشك الانهيار، فبالنسبة إلى الشرطة، كما بالنسبة إلى المجتمع المحيط بأمين الجعفري في تل أبيب، لم يعد هذا فقط ارمل الراحلة «المخدوع»، بل لا بد أنه هو الآخر متواطئ معها... وهكذا يصل إلى جحيمه. ولا يعود ما يهمه مكانته وعمله وحياته، بل صار كل ما يهمه الآن أن يعرف لماذا؟ لماذا وكيف حولت زوجته الحبيبة الجميلة السعيدة جسدها قنبلة قاتلة؟ كيف ومتى حدث هذا؟ من حرّضها؟ رحلة إلى الجذور الرافضة وهكذا، يبدأ رحلته وسط شكوك الشرطة وعداء معارفه السابقين من اليهود، الذين كانوا عالَمه و «أهله» قبل أيام، ليتوجه إلى نابلس، حيث عرف أن زوجته كانت تتردد بين الحين والآخر... وهو في رحلته النابلسية هذه يلتقي أخته وبعض أفراد عائلته من الذين «حرمه» نجاحه المهني في «المكان الآخر» من لقائهم منذ عشرين سنة وأكثر... لكن الفيلم ليس فيه هنا متسع من الوقت لإدانته على جحوده. في الفيلم يريد أمين أن يتبع خطوات زوجته، في الوقت الذي يعيش استعادة ماضيهما معاً، ولكن دائماً بقصد أن يفهم. إنه الآن لا يريد أكثر من أن يفهم ما الذي حدث... لكنه مع انتهاء الفيلم لن يكون قد روى ظمأه كثيراً، فهناك في فلسطين حيث تتحدث الملصقات عن زوجته كشهيدة بطلة، لم يجد كثراً يرحّبون به، بعضهم لأنه لم يستسغ نجاحه «الغامض» لدى العدو، وبعضهم لأنه يخشى أن تكون الاستخبارات الإسرائيلية هي من أرسله لتقفّي آثار شيخ أصولي يدعى مروان عرف أن زوجته كانت على اتصال به، وأنه هو مَن جنّدها. وأمين حين يحاول لقاء هذا الأخير يُطرد بقسوة ويُضرب ويُهدد. لكن الطريف هنا، والذي لا يجد المتفرج تفسيراً له، هو أن أمين يستدعى ذات لحظة إلى لقاء سري، يجد نفسه فيه من دون مقدمات سينمائية منطقية، في حضرة قسيس مسيحي يحاضر أمامه حول القضية وضرورة الإرهاب -طبعاً لا يسميه هذا إرهاباً، بل «نضالا»-... والغريب أن امين بعد هذا اللقاء سيجد نفسه كمن فهم فعلة زوجته بشكل أفضل وعثر على الإجابات التي كان يتطلع إليها، إذ إنه سيعود بعد ذلك إلى تل أبيب متجهماً رافضاً منطق معارفه... إنما من دون أن نعرف ما الذي ستكون عليه خطواته المقبلة. نعرف فقط أن رفضه الأول لما فعلته زوجته لم يعد الآن على مثل ذلك الوضوح. سينمائيا، يبدو هذا التبدل ضعيفاً من ناحية بناء السيناريو، خاصة أنه يتلو اللقاء المفتعل والمقحم مع القسيس، كبديل للقاء مع الشيخ مروان. والحال أن المرء يجد نفسه هنا، للتعامل المنطقي مع الفيلم، مضطراً إلى التغاضي عن هذا اللقاء، معتبراً إياه تنازلاً ما من المخرج.. فإن فعل، سيستعيد نظرة إلى «الصدمة» تجد فيه مساهمة في الدور الجديد الذي بدأ يلعبه نمط معيّن من سينما تنتج منذ سنوات في فلسطين، كما في إسرائيل، تسعى إلى العبور من اليقينيات القديمة إلى مجابهة الوضع الحقيقي بكل تشعباته.. ونعرف أن هذا النوع السينمائي يسير دائماً وسط الرمال المتحركة، لأن المعضلة الأساس تكمن في الهوة الكبيرة التي تفصل بين منطق العقل الذي لا بد له أن يتسم ببرودة هائلة إزاء أحداث ومواقف شديدة السخونة ودائمتها، وعالم العواطف والغرائز والأحكام المسبقة. في إسرائيل اعتبرت أفلام هذا النوع (من «زيارة الفرقة» إلى «العروس السورية» و «بستان الليمون» مروراً ب «لبنان» و «فالس مع بشير» وشرائط كثيرة غيرها) خنجراً في خاصرة الصهيونية واليمين الإسرائيلي، وربما وجود دولة إسرائيل نفسها كقوة احتلال وقهر، ولكن عندنا لم تحظ السينما المقابلة (من أفلام ميشال خليفي المتسائلة حول مسؤولية الذات في ما حدث، إلى أفلام إيليا سليمان الناقدة للذات بقوة وتهكم، مروراً بسينما شيرين دعيبس ونجوى نجار وهاني أبي أسعد ذات الأسئلة الحارقة) لم تحظ بما يكفي من تفاعل ونفوذ في الأذهان والذهنيات. كلها لا تزال أقرب إلى أن تكون سينما ملعونة في بيئة يصعب عليها أن تفيق من غفلة اليقين الجاهز. وزياد دويري بفيلمه الجديد هذا، ضمّ نفسه إلى هذا العالم المشاكس... فهل سيجد الفيلم عزاءه، إذ منع عرضه لدى جمهوره الطبيعي، الجمهور العربي الذي يريد الفيلم أن يحرضه على السؤال، هل سيجد عزاءه إن أكدنا أنه فيلم مشغول بشكل جيد من الناحية السينمائية، يؤكد من جديد قوة ودينامية لغة سينمائية متحركة تشتغل على نمط يوازن بين التقطيع خلال التصوير والتقطيع خلال التوليف، ويعطي أهمية كبيرة لدور الممثل. في ثلاثة أفلام حتى الآن -»بيروت الغربية» و «ليلى قالت هذا» قبل «الصدمة»- أثبت دويري حضوره القوي في السينما العربية الشابة، بلغة سينمائية شديدة التنوع، كما في اختيار للمواضيع يبدو للوهلة الأولى انتقائياً، لكن ما يؤمن له وحدته ذلك الهم الذي تحمله سينماه مهما نوعت في جغرافيتها ودنوّها أو بعدها من الذات.