من نافل القول أن نذكر بأن الصراع الإسلامي – المسيحي في العصر الوسيط لم يتجل فقط عبر المعارك العسكرية والجهود الديبلوماسية، بل تم استخدام البعد الثقافي أيضا كرافد لا يقل عنهما أهمية. وإذا كان العقل التركي ركن إلى أسطورة «البوزقورت» أو الذئب الأغبر التي جرت أحداثها في منطقة «أرغينكون» الأسطورية، فإنه لم يكتف بذلك، بل واصل الاتكاء على الأسطورة التي تساهم في تشكيل الوجدان الشعبي من أجل تحقيق أهدافه العسكرية، فلجأ إلى أسطورة «التفاحة الحمراء» أو «قزل ألما» التي تم إعادة إنتاجها بشكل دوري من أجل تبرير استمرارية الفتوحات العثمانية في بيزنطة والبلقان وبقية الأراضي الأوروبية. اعتمدت الأسطورة على وجود تمثال برونزي للإمبراطور البيزنطي جستنيان (527-565) في ساحة الأوغسطتيوم في القسطنطينية يحمل في يده اليسرى كرة أرضية (جرى النظر اليها في ما بعد كتفاحة حمراء) بينما كانت يده اليمنى ممدودة باتجاه الشرق. ولم يكتف بروكوبيوس (500–536) - المؤرخ الرسمي لبيزنطة في القرن السادس الميلادي - بوصف التمثال فقط، بل قام بتفسير دلالته الرمزية بحيث رأى الكرة الأرضية بوصفها العالم الذي يقبض عليه الإمبراطور، بينما تشير يده اليمنى إلى الشرق حتى توقف تقدم الفرس القادمين باتجاه العاصمة البيزنطية. وفي ما بعد، عندما نجح الفاتحون المسلمون في القضاء على الدولة الساسانية، فإن رمزية اليد الممدودة باتجاه الشرق تمت إعادة تفسيرها من جديد لتشير إلى محاولات المسلمين المتكررة لفتح مدينة القسطنطينية منذ عهد الدولة الأموية. بحلول القرن الرابع عشر الميلادي، وفي الوقت الذي كان يستعد فيه العثمانيون للعبور من آسيا الصغرى إلى أوروبا، حدث أن سقطت الكرة الأرضية أو التفاحة من يد الإمبراطور جستنيان، ليتم تفسير ذلك على أنه علامة لا تخطئ على زوال السيادة والسلطة العالمية من البيزنطيين وانتقالها إلى قبضة العثمانيين. وهكذا نظر العثمانيون منذ ذلك الوقت إلى أن مدينة القسطنطينية هي التفاحة الحمراء التي تنتظرهم، والتي سوف تفتح العالم واسعاً أمام استمرارية تدفقهم العسكري إلى أوروبا. على أن أسطورة التفاحة الحمراء لم تتوقف عند هذا الحد في الذهنية العثمانية، بخاصة بعد نجاحهم في فتح القسطنطينية عام 1453م، إذ تحولت لتصبح رمزاً للمدن الأوروبية المسيحية الكبرى التي يجب فتحها لبسط السيادة العثمانية الإسلامية عليها. وهكذا تمت إعادة إنتاج الأسطورة من جديد لتصبح مدينة روما معقل البابوية الكاثوليكية في الغرب الأوروبي هي التفاحة الحمراء الجديدة. وقام بدعم ذلك التفسير العديد من المؤرخين وشهود العيان المسيحيين الذين عاصروا فتح القسطنطينية، الذين أكدوا أن السلطان محمد الفاتح كان يرى في الإسكندر الأكبر مَثَله الأعلى، لذا أصر على مواصلة فتوحاته وهزيمة المسيحية عبر فتح مدينة روما التي مثلت التراث الروماني والمسيحي. كما أن بعضهم بالغ في استغلال فكرة اعتزام السلطان العثماني الزحف باتجاه روما والبندقية وبقية المدن الأوروبية من أجل استثارة حماسة البابوية الكاثوليكية والغرب الأوروبي بهدف إيقاف الزحف العثماني عبر مهاجمة الفاتح واستعادة مدينة القسطنطينية عاصمة المسيحية الأوربية الأرثوذكسية. وهناك من يقول أيضاً إن مصطلح «القزل ألما» أطلق تحديداً على كنيسة القديس بطرس في روما حيث المقر البابوي. وكما أن الامبراطورية الرومانية سبق أن ألحقت الهزيمة بقبائل الهون التركية القادمة من سهوب آسيا بقيادة أتيلا (395-453م) في موقعة شالون عام 451م، فإن العثمانيين الأتراك وصلوا بعد أتيلا بألف عام (1453م) ليثأروا لهزيمة جنسهم القديمة، وذلك عبر فتح مدينة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانيةالشرقية (بيزنطة) وبنية التقدم لاقتحام مدينة روما العاصمة التاريخية للرومان. وإذ أخبرتنا الحوادث التاريخية اللاحقة أن حلم السلطان الفاتح لم يخرج إلى حيز التنفيذ، فلم تتوجه الجيوش العثمانية لفتح مدينة روما وإسقاط البابوية الكاثوليكية من على كرسي القديس بطرس، فإن الذهنية العثمانية ما لبثت أن أعادت إنتاج أسطورة التفاحة الحمراء من جديد لتتماهى مع المدن المسيحية الكبرى التي واصل العثمانيون الزحف نحوها، كمدينة بودا عاصمة المجر، ثم مدينة فيينا عاصمة أسرة الهابسبورغ زمن السلطان سليمان القانوني خلال القرن السادس عشر الميلادي. ويذكر قاموس مصطلحات التاريخ العثماني لمحمد زكي باقالن، أن «قزل ألما» أو التفاحة الحمراء هو مصطلح أطلقه الأتراك العثمانيون على مدينة روما أولاً. غير أنه بدا أن القصد الحقيقي منه لم يتوقف عند مدينة بعينها بقدر ما كان يعني تحقيق النصر. ويستمر باقالن ليشير إلى أن ذلك كان هو المقصود بالتفاحة الحمراء حتى عصر السلطان العثماني سليم الثالث (1761-1808م). كما لفت نظره «أن ذكر القزل ألما لم يكن ينقطع من على ألسنة الجنود الانكشارية، وأصل هذه الكلمة هو أن أهل الاسلام سيواصلون فتوحاتهم حتى بلوغ التفاحة الحمراء» . كما أشار أيضا إلى أن المؤرخ العثماني إبراهيم بجوي (ت1651م) ذكر في تاريخه «أنه شاع على لسان الخلق أنه لا بد لأهل الإسلام من مواصلة الفتح حتى قزل ألما، لكننا لا نعلم سبب ومأخذ هذه الكلمة». لقد فهم بجوي ذلك من خلال متابعته حروب السلطان العثماني سليمان القانوني، إذ عاد ليذكر «خرج جميع السكان صغيراً وكبيراً، شباناً وشيوخاً إلى الصحراء التي يوجد بها قزل قورنا، التي هي قزل ألما. وهي مثل الحجر الذي يستخدم كعلامة لتحديد الحدود». وتستمر رحلتنا لسبر أغوار «قزل ألما» أو التفاحة الحمراء مع المصادر العثمانية لنجد الرحالة الأشهر أوليا جلبي (1611-1684) يذكر في الجزء السادس من رحلته معلومات متعددة عن التفاحة الحمراء، فعلى سبيل المثال قام بوصف قصر «قزل ألما» في مدينة بودين (بودا)، وجامع «قزل ألما» في استراجون في بولندا. ويفهم من المعلومات التي أوردها أن «القزل ألما» هي غاية انتصارات الأتراك العثمانيين في بلاد المجر. ورويداً رويداً بدأ تعبير «القزل ألما» يشيع بين الجنود الانكشارية، وبدأ يستخدم في اللغة العثمانية ليشير إلى أقصى حد وأبعد نقطة جغرافية وصلت إليها الفتوحات العثمانية. وظلت أسطورة التفاحة الحمراء تتدحرج حتى وصلت إلى الأدب التركي الحديث الذي تناولها في معالجات عدة لعل أبرزها عمل الشاعر والباحث التركي في الاجتماع السياسي ضيا كوك ألب (1876-1924) الذي يحمل اسم قزل ألما، ويشير إلى مدينة خيالية يحن الأتراك إلى العيش بها. وعلى الجانب المقابل للبوسفور، ابتدع العقل البيزنطي أسطورة شعبية جرى استخدامها كرد فعل ثقافي على الهزيمة العسكرية المهينة أمام العثمانيين، وذلك بعيد نجاح الأخيرين في فتح مدينة القسطنطينية مباشرة، فقد جرى تفعيل أسطورة تناولت عملية إنقاذ الإمبراطور البيزنطي الأخير قسطنطين الحادي عشر باليوغس (1404-1453) بينما أشارت المصادر التاريخية العثمانية والبيزنطية المعاصرة إلى مصرعه تحت سنابك خيل العثمانيين إبان اقتحام الجنود الانكشارية للقسطنطينية، إذ تحدثت الأسطورة عن هبوط الملاك رسول الرب خلال المعركة الأخيرة في 29 أيار (مايو) 1453 وقيامه بإنقاذ الإمبراطور الذي كان يقاتل العثمانيين بشجاعة بالغة. ثم حمله الملاك بعيداً من ميدان المعركة، ومن ثم إلى كهف تحت الأرض بالقرب من البوابة الذهبية غرب مدينة القسطنطينية. وأفادت الأسطورة بأن قسطنطين سوف يظل زماناً في حالة من السبات حتى يصله ملاك الرب من جديد ليعيد إليه سيفه، وعندها سوف يعود الإمبراطور لقيادة شعبه المسيحي ويدخل القسطنطينية من جديد. وما يهمنا بشكل خاص هنا، أن الأسطورة الشعبية البيزنطية تتواصل لتؤدي دورها التاريخي المقاوم للعثمانيين، فتذكر أن الإمبراطور قسطنطين وجنوده سوف يقومون بهزيمة الأتراك العثمانيين ومواصلة مطاردتهم إلى أقصى حدود بلادهم، حيث المكان الذي توجد فيه شجرة التفاح الحمراء Kokkini Milia أو Monodendreon التي تمثل وطنهم الأول، أو مكان ميلاد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). والغريب هنا أن الأسطورة لم تشر إلى المكان الأسطوري لميلاد الأتراك المعروف باسم «أرغينكون»، بل ركزت في دلالة لا تخطئها العين على الهوية الإسلامية للأتراك العثمانيين. وفي ثوب مغاير، خرجت قراءة أسطورية بيزنطية مقاربة للحدث نفسه لتشير إلى هبوط ملاك الرب في القسطنطينية وحث الإمبراطور الفقير Ptocholeon على مطاردة الإسماعيليين وذبحهم عند حدود Monodendreon، وهو ما ذكره المؤرخ البيزنطي المعاصر ميخائيل دوكاس الذي كان شاهد عيان على الفتح العثماني لمدينة قسطنطين 1453. واستمر الصراع الثقافي حتى العصر الحديث بين الجانبين: التركي المسلم وريث الخلافة العثمانية واليوناني المسيحي وريث العالم البيزنطي، إذ استمرت أسطورة شجرة التفاح الأحمر تتواتر في الكتابات اليونانية. من ذلك ما ورد في نبوءات الراهب اليوناني كوزماس من أيتوليان (1779-1714) الذي استقر في أحد أديرة جبل أثوس الذي ذكر في نبوءته التي حملت رقم 30 ما يلي: «سوف يرحل أعداء المسيح (الأتراك). لكنهم سيعودون ثانية. وعندها سوف تتم مطاردتهم حتى شجرة التفاح الأحمر، ومن بينهم ستقتلون الثلث، ويتحول الثلث الثاني للمسيحية، بينما سوف يصل الثلث الأخير إلى هنا». وكان من الطبيعي أن يتلقف الأدب اليوناني الحديث الأسطورة نفسها في ظل استمرارية حالة العداء بين اليونانيين والأتراك، وهو ما تجلى في قصيدة الشاعر اليوناني جورج بيزينوس (1849-1896) الذي كتب قصيدة عنوانها «آخر أباطرة باليولوغس» ضمّنها قصة الإمبراطور الذي استيقظ بواسطة الملاك ليمتشق حسامه مطارداً الأتراك حتى مكان شجرة التفاح الحمراء. أما الشاعر كوستيس بالاماس (1859-1943)، فقد ذكر في إحدى قصائده على لسان الإمبراطور البيزنطي: «أنا الإمبراطور/ سوف أنهض من سباتي الطويل/ ومن قبري سوف أعود بقوة لكي أقتحم البوابة الذهبية / وأنتصر على الخلفاء والقياصرة / وأقوم بمطاردتهم حتى مكان شجرة التفاح الأحمر». والملاحظ هنا أنه ضم المسلمين والروس إلى قائمة أعدائه الذين سوف يحقق انتقامه منهم. على أي حال، ظل ذلك المكان الأسطوري الذي شهد انطلاق الأتراك المسلمين لتحطيم العالم البيزنطي ومعقل المسيحية الأوروبية الأرثوذكسية ملهما للأدب الشعبي اليوناني الحديث الذي أفرز أغنية شعبية تواترت خلال العام 1970 تشير إلى عدم نجاح العالم المسيحي في تحقيق هدفه، كان عنوانها «الإمبراطور الرخامي»، تقول بعض أبياتها: «لقد أرسلت طائرين نحو شجرة التفاح الحمراء التي تتحدث عنها الأسطورة / فقتل أحدهما وجرح الآخر/ ثم لم يعد أيّ منهم ثانية/ وإذا ما كان الإمبراطور الرخامي موجوداً/ لكانت جداتنا ترنمن به للأطفال كحكاية عذبة/ لقد أرسلت طائرين إلى هناك/ فلم يعودا... وتحولا إلى حلم». * أستاذ في كلية الآداب – جامعة الملك فيصل – الأحساء