أمر الإمبراطور قسطنطين الكبير بتشييد العاصمة الثانية للإمبراطورية الرومانية على ضفاف البوسفور في القرن الرابع الميلادي باسم «روماالجديدة». غير أن المؤرخين اصطلحوا على تسميتها بالقسطنطينية نسبة إليه. وأهمية الموقع الجغرافي للمدينة ساهمت في ما بعد في ازدهارها التجاري باعتبارها تمثل نقطة مفصلية بين الشرق والغرب، فتجمعت فيها السلع والبضائع لتصبح منذ القرن العاشر الميلادي سوقاً كبيرة يرتادها التجار من مختلف الأقطار والأديان. وبعد أن ساهمت المدن التجارية الإيطالية (البندقية - جنوا - بيزا - أمالفى - أنكونا) في تقويض النظام الإقطاعي ونثر بذور النظام الرأسمالي الذي اجتاح أوروبا في القرون التالية، تمكنت بعد ذلك من الحصول على موطئ قدم في القسطنطينية منذ القرن الحادي عشر عبر الكثير من الأسواق والامتيازات الجمركية، فضلاً عن الأحياء التجارية التي تركزت في حي «غَلَطَة» على ساحل خليج القرن الذهبي، واستمر ذلك حتى سقوطها في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي. كان أنغيلو جيوفانى لوميللينو قنصلاً جرى تعيينه من قبل مدينة جنوا على الحي الجنوي في القسطنطينية إبان أحداث الحصار والاقتحام الذي قامت به القوات العثمانية للمدينة، وترك لنا رسالة في غاية الأهمية والصدقية عن تلك الأحداث المصيرية ذات الدلالة المهمة في تاريخ المسلمين، وكذا في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية والغرب الأوروبي. وإذا كان المشتغلون بالتاريخ يدركون جيداً أن المصادر التاريخية الحقيقية هي تلك التي لم تكتب بقصد أن تكون تاريخاً، فإن وثيقة لوميللينو التي هي عبارة عن خطاب عادي قام بإرساله إلى أخيه في جنوا بعيد سقوط القسطنطينية تحت سنابك خيل العثمانيين تعد في غاية الأهمية والصدق التاريخي معاً. بدأ القنصل الجنوي رسالته بطلب الصفح من أخيه لتأخره في الرد على رسائله السابقة بسبب الكارثة التي ألمت بالعاصمة البيزنطية، لدرجة أنه عبر عن ذلك بقوله: «... إنني أشعر في الوقت الحالي بأنني ميت أكثر من شعوري بأني على قيد الحياة بسبب السقوط غير المتوقع لهذه المدينة الحصينة». وعندما تطرق لوميللينو في شهادته على وصف أحداث اجتياح الجنود الإنكشارية للقسطنطينية وتحطيمهم الأسوار والدفاعات البيزنطية، وقيامهم بتمزيق شمل القوات المرتزقة من الإيطاليين، فإنه لم يتوقف كثيراً أمام شجاعة وإقدام القوات العثمانية واستماتتها في الهجوم تنفيذاً لأوامر السلطان محمد الفاتح، بل إنه اتفق مع باقي روايات المؤرخين المسيحيين وشهود العيان المعاصرين الذين عزوا تلك الهزيمة التي حاقت بالبيزنطيين إلى عقاب الرب، الذي صب جام غضبه على سكان المدينة فأصابهم بتلك الكارثة نتيجة لما ارتكبوه من خطايا وآثام. وهكذا تغافل لوميللينو، بفضل ما لحق بالقسطنطينية عاصمة المسيحية الأرثوذكسية الأوروبية من تدمير، عن إمعان النظر في قوة العثمانيين العسكرية، فضلاً عن اعتبارات ميزان القوى الذي كان يميل بشدة لمصلحة العثمانيين آنذاك. والحقيقة أن ذلك التفسير غير الموضوعي لانتصارات القوى الإسلامية في المواجهات العسكرية مع القوى الأوروبية المسيحية ظل سائداً طوال فترة العصور الوسطى الأوروبية، وهو ما ظهر بوضوح في المصادر التاريخية الكنسية والعلمانية على حد سواء التي عالجت حركات المد العسكري الإسلامي تجاه بيزنطة وأوروبا منذ الفتوحات المبكرة في القرن السابع حتى الفتح العثماني للقسطنطينية في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي. فقد كان التفسير المعتمد من الجميع لأي هزيمة تلحق بالمعسكر المسيحي هو غضب الرب على أتباعه الذين حادوا عن تعاليمه فاستحقوا ما لحق بهم من محن وكوارث. بعد ذلك يذكر القنصل الجنوي لوميللينو أنه بعد دخول الجنود العثمانيين المدينة فإنه قام بتحمل مسؤولياته في المحافظة على الحي التجاري والسلع والبضائع الخاصة بتجار مدينة جنوا في «غلطة». وبوصفه رجلاً تميز بالحصافة السياسية فقد أدرك أن المقاومة المسلحة لن تجدي مع السلطان الفاتح ومع الآلة العسكرية العثمانية، ولهذا قرر إرسال سفرائه بالهدايا للسلطان العثماني من أجل تذكيره بالمعاهدة التجارية المبرمة سابقاً بين العثمانيين ومدينة جنوا. غير أن السلطان الفاتح كان يتصرف كمنتصر حقيقي على الساحة، فلم يعر هؤلاء السفراء اهتماماً، وطالب القنصل أولاً بضرورة تسليم جميع المدافع ووسائل القتال الموجودة لدى السكان، إضافة إلى ضرورة كتابة قوائم بممتلكات التجار الموجودين بالفعل في الحي الجنوي، إضافة إلى التجار الذين نجحوا في الفرار من القسطنطينية، ومقدماً وعده للقنصل لوميللينو بإعادة ممتلكات التجار الموجودين في المدينة، وكذا ممتلكات التجار الفارين إذا عادوا للاستقرار في منطقة «غَلَطَة» لممارسة نشاطهم التجاري من جديد. أما من يرفض العودة منهم فستتم مصادرة سلعه وبضائعه وممتلكاته لحساب السلطات العثمانية. وهنا يظهر الحس السياسي الكبير للسلطان محمد الفاتح الذي أراد للقسطنطينية، بوصفها العاصمة العثمانية الجديدة، أن تحتفظ بمكانتها التجارية الفائقة كمعبر بين الشرق والغرب. وهكذا منح السلطان تجار مدينة جنوا بمقتضى المعاهدة الجديدة التي قام بتوقيعها معهم في اليوم التالي لسقوط القسطنطينية حرية العمل في حيهم التجاري بمقتضى قوانينهم وأعرافهم الخاصة. كما سمح لهم بحرية تامة في الحضور والرحيل من دون دفع أية ضرائب سوى ضريبة الرأس. كما أمنهم على زوجاتهم وأطفالهم ووعدهم بعدم انتزاع أبنائهم الصغار من أجل ضمهم إلى الإنكشارية، فضلاً عن المحافظة على ممتلكاتهم ومنازلهم ومحلاتهم التجارية وسلعهم وبضائعهم ومزارع الكروم التي يملكون. ولم يكتف الفاتح بهذا، بل سمح لهم بالاحتفاظ بكنائسهم مع إقامة شعائرهم بها، شريطة ألا يقوموا بدق الأجراس. وفي الوقت الذي وعدهم فيه بأنه لن يقوم بتحويل كنائسهم إلى مساجد، فإنه قرر أنه لن يسمح لهم ببناء أية كنيسة جديدة. على أية حال يعود لوميللينو ليشير الى أن سياسته الديبلوماسية نجحت في توفير الأمان لرعاياه، على عكس ما حدث مع قنصل مدينة البندقية الذي أمر السلطان بقتله بسبب المقاومة التي أبداها سكان الحي البندقي في المدينة. كما تابع أيضاً في رسالته لأخيه أوامر السلطان الفاتح بضرورة دفع السفن الأوروبية ضريبة العبور في مضيق البوسفور وميناء كافا على البحر الأسود، وعند جزيرة خيوس في بحر إيجه. ولم يفت القنصل الجنوي أن ينوه أيضاً إلى عديد الأسرى البيزنطيين والإيطاليين الذين سقطوا في قبضة العثمانيين، وقام بإبلاغ أخيه بأن ابن أخيهما الثالث، الذي يدعى امبريالى سقط في قبضة العثمانيين، وأن هذا الأمر قذف به إلى حالة من الكآبة والحزن الى درجة جعلته يكتب: «إنني أشعر بالكاد أني على قيد الحياة... غير أنني سأواصل جهودي لافتدائه بالمال الذي لن يقف عقبة في طريقي، حتى لو اضطررت للتضحية بكل شيء ولم يعد لديَ سوى قميصي الذي أرتديه». وفي الجزء الأخير من شهادته لم ينس لوميللينو أن يوجه إشارة تحريضية تجاه السلطان العثماني، فذكر أنه أصبح في منتهى الصلافة والغرور بعد نجاحه في الاستيلاء على القسطنطينية بحيث نظر إلى نفسه بصفته «سيد العالم»، لدرجة أنه أقسم أنه خلال عامين فقط سيستولي على مدينة روما نفسها. ويعود القنصل الجنوي الذي شاهد بأم عينيه اجتياح جنود محمد الفاتح للمدينة ليؤكد تلك الفكرة: «إنني أقسم بربنا الوحيد والحقيقي أنه إذا لم يقم المسيحيون بعمل حاسم وسريع لإيقاف تقدم العثمانيين... فإن السلطان سيقوم بأعمال تملؤهم بالدهشة والذهول، إذ أن العثمانيين سيحيلون القسطنطينية إلى مجرد أولى المدن التي تعرضت للدمار والخراب، فلسوف يقومون باجتياح أوروبا كلها». وعادت لهجة القنصل الجنوي في نهاية رسالته لتعبر عما يعيشه من أحداث جسام صبغت مزاجه بالسوداوية والكآبة، فيستميح أخاه عذراً من جديد عبر كلمات معبرة: «... إنني أمر بالكثير من المشاكل والمتاعب. اصفح عني إذ لم أكتب لك بوضوح تام. فإن عقلي يعاني من الاضطراب والتشوش لدرجة أنني بالكاد أدرك ما أقوم بعمله... وبلغ احترامي لحاكم جنوا فلم أكتب إليه أية رسالة لأن روحي المعنوية متدنية للغاية... فقد تحول كل ما قمنا به من جهد إلى قبض ريح». * كاتب مصري