أرسلت إليّ ابنتي زينب البريد الإلكتروني الآتي: «معظم البريطانيين تحدروا من فلاحين ذكور تركوا العراق وسورية قبل عشرة آلاف سنة (وقد أغوتهم نساء محليات من مجتمع كان يعيش على الصيد وجني القوت)». هذا الخبر أذهلني، وأعاد إليّ ثقتي في نفسي. ففي منتصف التسعينات كتبت دراسة جاء فيها: «في ضوء فرضية العامل الزراعي، هل كان الوطن الأقدم للأقوام الهندية - الأوروبية في شمال وادي الرافدين؟». اقتحام عالم الكتابة مهمة صعبة، وقد يكون مخاطرة، لا سيما إذا لم تكن مختصاً في الموضوع الذي وجدت نفسك مستدرجاً للكتابة فيه. وهذه «الورطة» لازمتني أكثر من عشرين سنة، عندما استهوتني الكتابة عن عالم اللغة. والعتب يعود إلى الكاتب اللبناني، وأستاذي يوماً ما، الدكتور أنيس فريحة، الذي غرس فيّ حب اشتقاق الكلمات. ما هو أصل كلمة «الجن» مثلاً. وكتبت كثيراً عن اللغة، وعن عالمي اللغة والأسطورة. ونشرت بعض هذه الكتابات في كتب. ثم رأيت أن أنسحب من الميدان بعد أن نشرت كلمة في «الحياة» تحت عنوان «المشي على البيض». فقد بدأت أشعر بأنني أستطيع أن «أجترح» فرضيات، وهذا كثير جداً لمن لا يملك اختصاصاً في الموضوع. من أكون أنا فأزج نفسي بين باحثين مختصين في الموضوع، فأزعم مثلاً أن الأقوام الهندية - الأوروبية انطلقوا من وادي الرافدين؟ وطلقت عالم اللغة بغير حسرة، فأنا أحب أن أكتب عن أشياء أخرى، كالفيزياء والموسيقى، وحتى الرواية! ولم أكن نادماً، ولم يستبد بي الشوق إلى عالم اللغة، على رغم اعتزازي بما كتبته في هذا الشأن. ثم وصلني البريد الإلكتروني الذي أشرت إليه في مستهل هذه الكلمة، فأدار رأسي. نحن والأوروبيون أقارب؟ وكنا نميل إلى هذا الاعتقاد من واقع انتشار زراعة الحنطة غرباً. وموطن الحنطة الأصلي كان في شمال سورية. ثم جاءت الدراسات البيولوجية لتعزز ذلك. فبعد دراسة الDNA لأكثر من ألفي رجل، أكد الباحثون أن لديهم أدلة دامغة على أن أربعة من خمسة أوروبيين في وسعهم أن يترسموا جذورهم إلى الشرق الأدنى. لقد درست أبحاث جامعة لستر عن الطفرات الجينية المشتركة لكروموسوم (Y)، الDNA الذي تحدر من الآباء إلى الأبناء، ووجدت أن ثمانين في المئة من الرجال الأوروبيين لديهم الطفرة نفسها في الكروموسوم (Y)، وبعد تحليل كيف أن الطفرة انتشرت في أوروبا، استطاعوا التوصل إلى أن أوروبا تم استيطانها في حدود ثمانية الآف عام قبل الميلاد. وقال البروفيسور مارك جوبلنغ، الذي رأس هذه الدراسة: «كان ذلك في زمن الثورة النيوليثية (العصر الحجري الحديث) عندما طوروا أسلوباً جديداً في صنع الآلات، أدوات جميلة ومتناسقة». وقال: «في هذه المرحلة، قبل حوالى عشرة آلاف عام كان هناك دليل على المستوطنات الأولى، حيث كف البشر عن ممارسة حياة البداوة والصيد، وبدأوا ببناء المجتمعات». وبدأت الزراعة - التي امتدت إلى أوروبا - في حدود تسعة آلاف سنة ق.م في الهلال الخصيب، وهي منطقة تمتد من الساحل الشرقي للبحر المتوسط إلى الخليج العربي، وتضم العراق وسورية وفلسطين ولبنان وجنوب تركيا. وكانت هذه المنطقة مهداً للحضارات البابلية والسومرية والآشورية. ويرى بعض علماء الآثار أن بعض هؤلاء الفلاحين جابوا العالم، واستوطنوا أراضي جديدة ونقلوا إليها مهارات الزراعة. بيد أن آخرين يؤكدون أن هذه المهارات انتقلت من فم إلى آخر، وليس من طريق الهجرة الجماعية. إلا أن هذه الدراسة الجديدة تذهب إلى أن الفلاحين كانوا يحملون عصيهم ويمضون باتجاه الغرب عندما تضيق بهم قراهم. وكانت بريطانيا وإرلندا آخر موطئ قدم لهم. ويقول البروفيسور جوبلنغ: «بعد أن تم التوسع كانت لدى هؤلاء الرجال أفضلية لأنهم كانوا قادرين على إنتاج طعام أكثر (من الصيادين وجناة القوت)، وبذلك كانوا أكثر اجتذاباً للنساء وأكثر إنجاباً»! نفترض أن هذه الدراسة تشمل أوروبا أيضاً، ولا تقتصر على بريطانيا وإرلندا. وإلا كيف يصل المزارعون من الهلال الخصيب إلى بريطانيا من دون أن يمروا بأوروبا؟ وقبل تقدم علم الجينات كانت هناك نظريات حول الوطن الأم للأقوام الهندية - الأوروبية (بمن فيهم البريطانيون). سأشير إلى هذه النظريات من دون الدخول في تفاصيل لأن الحيز المتاح لهذه الكلمة محدود. النظرية الأكثر شيوعاً حول أصل الأقوام الهندية - الأوروبية هي: أولاً: النظرية السهوبية (أو السهبية إذا تشددنا عربياً) وهذه النظرية تذهب إلى أن موطن الأقوام الهندية - الأوروبية الأصلي كان جنوبروسيا وأوكرانيا، أو ما بين بحري قزوين والأسود. وهذه المنطقة هي موطن الحصان المدجن، الحيوان المقترن بالأقوام الهندية - الأوروبية. طبعاً إلى جانب أدلة أخرى، لغوية وأنثروبولوجية، لن ندخل في تفاصيلها. أول من قال بهذه النظرية بينفي منذ عام 1868. ثم أحيا هذه النظرية مجدداً عالم الآثار الأسترالي الشهير غوردن تشايلد في الفترة (1926 - 1950). وفي ما بعد تقدمت العالمة السوفياتية المعروفة ماريا غيمبوتاس بمزيد من الأدلة والحجج حول هذه الفرضية. حظيت نظرية غيمبوتاس السهبية بتأييد عدد أكبر من العلماء، وتبنتها الموسوعة البريطانية وموسوعة لاروس الفرنسية (وإن كان هذا لا يعني بالضرورة صدقية علمية لا جدال فيها). ثانياً: الفرضية القائلة إن منطقة ما وراء الكاربات وأراضي الدانوب وما وراءه (مورافيا، سلوفاكيا، المجر...) كانت المهد الأول للأقوام الهندية - الأوروبية. ففي هذه المنطقة ظهرت أربع حضارات ترقى إلى الألفين الخامس والرابع ق.م هذا إلى جانب أدلة أخرى آثارية ولغوية. ثالثاً: الفرضية القائلة إن شمال أوروبا (منطقة البلطيق) كانت مهد الأقوام الهندية - الأوروبية. وتستند إلى أدلة لغوية، لا سيما أسماء الأنهار التي تشترك في مقاطع نهاياتها، ووجود نماذج هندية - أوروبية صرف من النباتات والحيوانات في هذه المنطقة، مثل البلوط والزان وسمك السلمون. وقدم اللغة الليتوانية. لكن بعض أسانيد هذه النظرية لم يصمد أمام النقد. رابعاً: منطقة البلقان - الكاربات. ومن بين القائلين بها غيورغييف (1958)، ودياكونوف (1982). وهذه أيضاً تفتقر إلى الأدلة الآثارية. فضلاً عن أنها لا تقدم تفسيراً للاتصالات الطويلة الأمد بين اللغة الهندية - الأوروبية ولغات القفقاس، واللغات السامية وغيرها. خامساً: منطقة أرمينيا أو شرق الأناضول، التي يرجحها العالمان اللغويان «السوفياتيان» غامكر يليدزة وإيفانوف (1972 - 1985). وتستند هذه الفرضية إلى العامل البيئي (الأيكولوجي) بصفة خاصة. وهي تطرح نظريات لغوية جديدة في إطار تطور الأصوات (الحروف) الساكنة في اللغات الهندية - الأوروبية، وبنية نحوية معدلة. ويقول هذان العالمان: «إن المنطقة الأصلية للموطن السلفي للأقوام الهندية - الأوروبية تنطبق عليها مواصفات المنطقة الممتدة بين شرق الأناضول، وجنوب القفقاس، وشمال وادي الرافدين في الألفين الرابع والخامس ق.م». لكن حجتها تستند في الأساس إلى أدلة بيئية ولغوية، بما في ذلك عدد من المفردات المستعارة من اللغات السامية، الأمر الذي يدعو إلى الاعتقاد بافتراض تجاور جغرافي في مرحلة مبكرة. وأنا معجب بالقائمة من المفردات البيئية المشتركة بين اللغات الهندية - الأوروبية التي وضعها هذان العالمان. من المفردات المناخية في هذه القائمة نجد مثلاً: الشتاء، الثلج، البرد، الجليد، الحر، الدفء. ومن بين المفردات الجغرافية: قمة، جبل، صخرة، حجر، هضبة، ريح شمالية جبلية. ومن المفردات النباتية المشتركة بين لغات المجموعة التي وضعها هذان العالمان: الحور الرجراج، الطقسوس، الزان، البتولا، الدردار، الصنوبر، الكاربينوس، البلوط، البلوط الجبلي، الزيزفون، الصفصاف، التفاح، الكرز، التوت، الجوز، العنب، الورد والخلنج. ومن بين أسماء الحيوانات: القندس، ثعلب الماء (القضاعة)، الوعل (الأيل، الظبي)، الحنزير البري، الثور البري، الأرنب، الدب، الذئب، الثعلب، ابن آوى، الوشق، الفأر، الحمار، النمر الأرقط، الأسد، السرطان، الطير الصغير، نقار الخشب، الشرشور، الطير المائي، الوز، التم، الكركي، النسر، الغراب، الطيهوج، السالمون، الحنكليس. وهي قائمة تبقى موضع نقاش، لأن بعض اللغويين يرى أن بعض مفرداتها مستعار من لغات أخرى، سامية مثلاً، كالأسد. لكن الباحثين يصران على أن الأسد كان معروفاً عند الأقوام الهندية – الأوروبية. والغريب أنني لم أجد ذكراً لاسم الحصان، مع أنه حيوان هندي - أوروبي بامتياز. لكنني كنت أرجح نظرية غامكر يليدزة وإيفانوف على سواها لأنها تعتبر منطقة تل حلف على الخابور (شمال سورية) موطناً أول للأقوام الهندية - الأوروبية. وهناك نظريات أخرى، نذكر من بينها نظرية الباحث البريطاني كولن رينفرو التي تعتبر غرب الأناضول موطن الهنود الأوروبيين. وتستند هذه النظرية إلى عامل الانتشار الزراعي (زراعة الحنطة). وأنا وجدت العامل الزراعي عنصراً مهماً في هذا الإطار. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا كان الانتشار من غرب الأناضول، كما يرى رينفرو، وليس من وادي الرافدين، الموطن الأصلي لزراعة الحنطة (أو شمال سورية بالذات)؟ وأخيراً هل نحتكم إلى عامل الجينات في هذا الموضوع، وهي دراسة علمية، ونعيد النظر بما جاء في النظريات المشار إليها أعلاه، أو نعتبرها أدلة متأخرة عن تأريخ انطلاق الأقوام الهندية - الأوروبية من الهلال الخصيب (العراق وسورية) قبل عشرة آلاف سنة؟ أم إن هذه الدراسة البيولوجية في حاجة إلى مزيد من التراكم الإحصائي؟ لكننا نرجو أيضاً ألا يكون هناك تآمر على اسمَي العراق وسورية لطمس هذا الاكتشاف التأريخي المهم. وفي هذا الإطار، لا أذكر من قال إن هناك نقاط التقاء بين اللغات السامية ومجموعة اللغات الجرمانية (الإنكليزية تابعة إلى اللغات الجرمانية). كما أن هذا يدعونا إلى إعادة النظر في النظرية اللغوية «النوستيرية» التي تقول بوجود جذور مشتركة بين ست مجموعات لغوية من بينها اللغات السامية والهندية - الأوروبية.