يخبرنا علماء الإنسانيات أن "الإنسان" ظهر أولاً في قارة أفريقيا قبل أن يبدأ رحلته شرقاً عبر باب المندب للجزيرة العربية، وعبر سينا نحو الهلال الخصيب وقارة أوروبا. وهذه الفرضية تعتمد على أقدمية الآثار والأحافير المكتشفة للانسان.. التي يعود أقدمها الى أفريقيا ثم آسيا ثم أوربا وأخيرا الى استراليا والأمريكيتين.. غير أن هناك طريقة أخرى لتتبع هجرة القبائل الانسانية من خلال تتبع انتشارها اللغوي وتشعبها الثقافي.. فالعالم اللغوي الألماني شلايشر مثلا قدم (في عام 1860) أول نموذج لشجرة تطور اللغات الحديثة واستطاع من خلالها تتبع هجرة ومسارات الشعوب القديمة.. وبنفس الطريقة تمكن عالم الانثربولوجيا فتشايلد في كتابه "الآريون" من اكتشاف صلات قوية بين اللغات الأوروبية والهندية القديمة. واعتبر تشايلد أن أول هجرة للشعوب الهندية نحو أوروبا كانت مع بداية العصر البرونزي لأنه لم يجد كلمة واحدة مشتركة تدل على معرفة تلك الشعوب "للبرونز" أو "الحديد".. وفي هذا الكتاب يخبرنا فتشايلد كيف غادرت إحدى القبائل الهندية موطنها الأصلي قبل ألف عام واتجهت - في رحلة معاكسة - نحو الغرب.. لا أحد يعرف لماذا؛ ولكن يعتقد انهم (حتى في الهند) كانوا يعشقون الترحال ويأنفون من الاستقرار في أي مكان. وفي بداية القرن الخامس عشر وصلوا الى أوروبا وادعوا انهم قدموا من بلاد تدعى "مصر الصغرى". وفي البداية رحب بهم الأوروبيون ولكنهم سرعان ما انقلبوا ضدهم نظرا لانعزالهم وتمردهم على السلطة - ناهيك عن امتهانهم السحر وقراءة البخت والتسول. وحين اكتشفت أمريكا رحل بعضهم اليها فيما بقي البعض الآخر في أوروبا وقتل منهم أعداد كبيرة في معسكرات النازيين خلال الحرب العالمية الثانية.. ورغم أن احدا لا يعرف سبب تسميتهم ب(الغجر) إلا ان علماء اللغويات استطاعوا معرفة موطنهم الأصلي - والبلاد التي مروا بها - من خلال مقارنة الكلمات التي يتحدثونها بلغات العالم الحالية. وحكاية الغجر مثال لإمكانية تتبع الشعوب والقبائل البشرية من خلال المفردات القديمة والمشتركة - وأيضا لتأكيد أو نفي علاقة الشعوب والاعراق ببعضها البعض.. وهي طريقة تدعى "الانتساب اللغوي" وبفضلها لاحظ العلماء وجود مفردات مشتركة بين الغجر والقبائل الموجودة في شمال الهند.. كما لاحظوا ان لغة الغجر تضم مفردات إيرانية أكثر حداثة - مما يشير الى استيطانهم لفترة في إيران قبل رحيلهم الى أوروبا!! على أي حال؛ بالاضافة للأثر اللغوي المشترك هناك طرق أخرى يمكن من خلالها تتبع هجرات الشعوب القديمة كالمقارنة بين فصائل الدم الشائعة وتحليل المورثات القديمة ومقارنة جماجم الشعوب المختلفة.. أما أقوى دليل يمكن الأخذ به اليوم فهو المقارنة بين الأسنان البشرية لشعوب العالم؛ فرغم أن أسنان البشر تبدو متشابهة إلا أن هناك سمات ثانوية تميز شعبا عن شعب وعرقا عن آخر - مثل أخاديد المينا ودوائر الضروس وعدد الجذور وحواف الأسنان.. وبهذه الطريقة أمكن اكتشاف الأصل المشترك بين الهنود الحمر في أمريكا وسكان سيبيريا في آسيا، وبين شعوب اندونيسيا السوداء وسكان أستراليا الأصليين - في حين اتضح وجود اختلاف كبير بين شعوب شرق آسيا وسكان سيبيريا، وبين الأفارقة والقبائل السوداء في صحراء كالهاري الأفريقية! المفارقة الفعلية أن اليهود (الشرقيين) لا يختلفون عن العرب سواء في أصلهم اللغوي أو العرقي أو حتى اشتراكهم معنا في سلالة سام ابن نوح عليه السلام.