بحكم التجربة الأخيرة للمؤتمر الدولي للسلام الذي عقد في انابوليس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 وتداعياته، لابد من التعاطي بكثير من الحذر مع الأفكار الجديدة لعقد مؤتمر دولي للسلام بالتوازي مع مقاربة إيجابية لنية الرئيس باراك اوباما طرح «خطة متكاملة» لسلام شامل على جميع المسارات على أساس مرجعية مؤتمر مدريد للسلام ورفض سداد العرب ودائع تطبيعية في حساب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ل «تجميد» الاستيطان. كان الهدف المعلن لمؤتمر انابوليس إطلاق مفاوضات مكثفة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وحشد الدعم الدولي لإقامة الدولة الفلسطينية قبل نهاية فترة رئاسة الرئيس الأميركي جورج بوش في نهاية العام الماضي. ودعيت الى المؤتمر نحو 40 دولة ومنظمة لإحياء «خريطة الطريق» التي كانت اللجنة الرباعية الدولية (روسيا، أميركا، الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) وضعتها بناء على «رؤية» بوش لتأسيس دولة فلسطينية ب «حدود موقتة» قبل نهاية عام 2005. على الصعيد الخطابي والحركة الدبلوماسية الدولية، أعلن بوش «الرؤية» في حزيران (يونيو) في عام 2002 وجرت ترجمة ذلك دولياً بتشكيل «الرباعية الدولية» في مدريد في نهاية ذلك العام ثم إعلان «خريطة الطريق» في نيسان (إبريل) 2003 للمرور بمراحل تتضمن قيام الجانب الفلسطيني بإجراءات وقيام إسرائيل «بتجميد» بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية انتهاء بتأسيس الدولة الفلسطينية في نهاية 2005. جرى تمديد الموعد دون تحقيق ذلك. وقبل سنة من انتهاء ولاية بوش دون تنفيذ تلك «الرؤية»، طرح عقد مؤتمر انابوليس. أما على الصعيد الفعلي، جرى غزو العراق في آذار (مارس) 2003 ثم كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي ارئيل شارون عن «خطة الفصل» من جانب واحد مع الفلسطينيين في قطاع غزة. ووافقت الأحزاب الإسرائيلية على هذه الخطة في حزيران (يونيو) 2004 ثم غيب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في تشرين الثاني من ذاك العام. وبدأت القوات الإسرائيلية تنفيذها في أب (أغسطس) 2005. وفيما أمل الفلسطينيون ان يكون ذلك في إطار تنفيذ «خريطة الطريق» لتأسيس دولة فلسطينية وعاصمتها القدس وحل قضية اللاجئين، قال شارون وبتأييد من أميركا، ان إسرائيل ستحتفظ بسيطرتها على المستوطنات في الضفة الغربية وتوسعيها «طبيعياً»، رافضاً التفاوض في شأن القدس واللاجئين. وفي بداية عام 2006، فازت «حركة المقاومة الإسلامية» (حماس) في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني وتشكلت حكومة وحدة برئاسة إسماعيل هنية، الأمر الذي قوبل بربط أميركي وأوروبي التعامل مع «حماس» بقبول هذه الحركة شروط «الرباعية الدولية» (الاعتراف بإسرائيل والاتفاقات الموقعة ونبذ العنف)، ما أدى الى فشل الحكومة وتصاعد الخلاف مع «فتح» الى حين التوصل الى اتفاق المصالحة بين الحركتين في شباط (فبراير) 2007 الذي لم يصمد كثيراً الى حين قيام «حماس» بالحسم في حزيران من العام نفسه وتصاعد الانقسام الفلسطيني بين سيطرة «حماس» على غزة وإدارة حكومة هنية وتمركز السلطة في الضفة والسيطرة «الفتحاوية». وفي لبنان، جرت حرب تموز (يوليو) في عام 2006 انتهت بصمود كبير ل «حزب الله» وانتصار المقاومة وفشل رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت وحكومته بتحقيق أهدافه أمام المقاومة اللبنانية، ثم فشله خلال المرحلة الانتقالية في أميركا ما بين ذهاب بوش وقدوم الرئيس باراك اوباما في تحقيق الأهداف المعلنة بالعدوان على غزة أمام صمود «حماس». مما سبق، يمكن التوصل الى أربعة استنتاجات: أولاً، الفجوة كبيرة بين ما يعلن خطابياً في الأروقة الدبلوماسية العابرة للأطلسي وما يحصل على ارض الواقع في الشرق الأوسط فكانت الفجوة هائلة بين تصريحات بوش والواقع. ثانياً، ربما استعملت قضية الصراع العربي - الإسرائيلي لأهداف بعيدة عن النية الفعلية لحل الصراع في ضوء اعتقاد محللين بضرورة القيام بحملات علاقات عامة توحي بالعمل لحل الصراع ذلك لتهدئة خواطر العرب والحركات الإسلامية و «كسب العقول والقلوب» لتخفيف الاحتقان على الجبهات الأخرى (العراق أو أفغانستان). هل كانت صدفة ان يتزامن طرح «رؤية» بوش و»خريطة الطريق» مع احتلال العراق؟. ثالثاً، المطروح كان إدارة أزمة الصراع العربي - الإسرائيلي وليس حله. رابعاً، يسعى اللاعب الإسرائيلي لأن يكون المبادر الرئيس بشروطه الداخلية في منطقة الشرق الأوسط، ويحاول فرض وقائع على المنطقة أو في الأراضي المحتلة لتصبح هي في ذاتها محل التفاوض وليس جوهر المسألة. في الوقت نفسه لابد من الإشارة الى معطيات جديدة متوفرة حالياً: أولاً، ان إدارة اوباما وضعت عملية السلام في مقدم أولوياتها منذ بداية الولاية الرئاسية الأولى. ثانياً، ان هذه الإدارة أعلنت ان تحقيق السلام الشامل «مصلحة قومية أميركية» وان الهدف سلام على جميع المسارات التفاوضية (السوري والفلسطيني واللبناني). ثالثاً، انها مقتنعة مع دول أوروبية أخرى، ان مشاكل المنطقة «متداخلة التأثير» أي إن حل الصراع سيسهل مهمة الانسحاب الأميركي من العراق وتسهيل الحل في أفغانستان وجوارها. رابعاً، ان الحربين على لبنان وغزة لم تسفرا عن تحقيق الأهداف السياسية، بل عززتا من الاعتقاد بعدم إمكانية تجاوز «حزب الله» و «حماس». خامساً، ان الإدارة الأميركية مقتنعة ب «الانخراط السياسي» مع جميع الأطراف الفاعلة: حوار مباشر ورفيع المستوى مع سورية، حوار مباشر ضمن مجموعة 5+1 مع إيران، حوار عبر بريطانيا مع الجناح السياسي ل »حزب الله»، حوار المسار الثاني عبر خبراء مع القادة السياسيين ل »حماس». ضمن هذا السياق، طرحت أفكار عدة لعقد مؤتمر دولي للسلام. روسيا تريد مؤتمراً ثانياً مستكملاً لأنابوليس ولم تحسم أمرها بين ان يكون منطلقاً من مرجعيات هذا الاجتماع الدولي أو على أساس مرجعيات مؤتمر مدريد. فرنسا طرحت أيضاً فكرة «تجمع دولي» يشارك فيه الفلسطينيون، بعد توحدهم، يتناول المسارات الثلاثة. وقيل أيضاً، ان تركيا أبدت اهتماماً حذراً لمؤتمر دولي - إقليمي للسلام دون ان تتبلور ملامحه. لكن ذلك، يستدعي أسئلة من قبيل: هل هدف المؤتمر إطلاق المفاوضات من جديد؟ على أي أسس سيعقد المؤتمر؟ أسس مدريد مثل «الأرض مقابل السلام» والقرارين 242 و338 ورسائل الضمانات التي كانت الإدارة الأميركية بعثتها الى الأطراف المعنية؟ أم على أسس جديدة؟ على أسس مؤتمر انابوليس مثل «خريطة الطريق»؟ هل الهدف المفاوضات لأجل التفاوض؟ الاهتمام بالعملية وليس بالنتائج فقط؟ لماذا الاستعجال بطرح المؤتمر؟ اذا كان الهدف إطلاق المفاوضات، فإن المفاوضات كانت قائمة ما يعني ان المشكلة ليس في بدء العملية بل ان العقبة في عدم وجود قرار سياسي لدى الطرف الإسرائيلي الأمر الذي كان أدى الى فشل انابوليس وخطط تنفيذية أخرى بل أدى الى حرب غزة وما أسفرت عنه من جرائم من جهة وإعادة عقارب ساعة مسيرة السلام الى الوراء في المنطقة من جهة ثانية. ومن المفيد التذكير، ان عقد مؤتمر لأمور تتعلق فقط بالعلاقات العامة، يؤدي الى مزيد من الإحباط والتوتر في المنطقة. لذلك يمكن التركيز السوري على ضرورة الإعداد جيداً للمؤتمر وتحديد أهدافه ووجوب ان تكون مرجعياته منطلقة من أسس مؤتمر مدريد دون مرجعيات جديدة أو جزئية طرحت في السنوات الأخيرة. يضاف الى ذلك، ضرورة النظر الى المؤتمر الدولي للسلام من زاوية متجددة على أساس ان المؤتمر يجب ان يكون تتويجاً لتقدم جوهري في مفاوضات السلام طالما ان المرجعيات موجودة ومتوافق عليها دولياً وإقليمياً قبل 18 سنة، بحيث يأتي المؤتمر الدولي ليعطي ضمانات للأطراف المعنية لتوقيع الاتفاقات وتجعلها واثقة من تنفيذ اتفاقات سلام موقعة. من هنا أهمية الدور التركي في السنوات السابقة. اذ يشير محللون الى ان تقدماً حصل في المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل التي انطلقت في ايار (مايو) من العام الماضي بعد تقديم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ايهود اولمرت الى الجانب التركي «تعهداً» بالانسحاب الكامل من الجولان. وباعتبار ان أميركا باتت مقتنعة بضرورة تحريك المسار السوري وفق ما نقله المبعوث الأميركي جورج ميتشل الى دمشق من التزام اوباما تحقيق السلام الشامل على جميع المسارات بما فيها السوري، فإن الظروف باتت مواتية للضغط على الجانب الإسرائيلي لإنتاج إرادة سياسية بتحقيق السلام. تبدو حكومة نتانياهو غير متحمسة حالياً للدور التركي لسببين: أولاً، معاقبة حكومة رجب طيب اردوغان على الموقف الذي اتخذته ضد العدوان على غزة. ثانياً، محاولة التخلص من ارث الجولات غير المباشرة في الفترة الأخيرة خصوصاً ما يتعلق بخط 4 حزيران (يونيو) 1967. بات بحكم المؤكد ان إدارة اوباما بصدد طرح خطة للسلام مع نهاية شهر رمضان المبارك في ضوء الاتصالات التي قام بها ميتشل في الأطراف المعنية. لذلك، من المفيد القول بضرورة ان تكون خطة اوباما «متكاملة» تشمل المسار الفلسطيني والتعامل مع الأطراف الفاعلة فيه بما فيها «حماس» وتحدد مبادئه الرئيسة دون ان تكون نقطة الانطلاق اشتراط ان تقدم الدول العربية مبادرات بناء ثقة في مجال التطبيع لتشجيع نتانياهو على السير باتجاه السلام، لسببين: أولاً، ان المشكلة في إسرائيل وحكومة نتانياهو وهي اكبر من موضوع جزئي تتعلق بحل الدولتين والسلام الشامل، وان الاستيطان غير شرعي وتجميده أحد التزامات «خريطة الطريق». ثانياً، ان توجيه منصة الضغط الى الأطراف العربية يضعف جبهة السلام العربية بدلاً من ان يقويها. يجب الاقتناع بأن هناك أولويات وطنية وخطوطاً حمراً صعب ان تتجاوز الحكومات العربية. والمطلوب عربياً، التمسك بمبادرة للسلام التي تقترح حلاً يبدأ بالانسحاب الكامل من جميع الأراضي المحتلة عام 1967 تعقبه علاقات طبيعية مع الدول العربية. ويجب ان ينظر الى المسار السوري ضمن الحل الشامل وان يكون استئناف المفاوضات مبنياً على ما تحقق في المفاوضات السابقة بما فيها عبر الوسيط التركي وخصوصاً ما يتعلق ب «تحديد» خط 4 حزيران. ان محاولة العودة الى نقطة الصفر، لم تنجح في السنوات السابقة، باعتبار ان الجانب السوري نجح في تثبيت حدود الانسحاب «خطاً احمر» وأعلن مراراً: الانسحاب الكامل من الجولان الى خط 4 حزيران أمر غير قابل للتفاوض والمساومة وان ذلك ليس شرطاً مسبقاً للتفاوض، بل من متطلبات السلام وحق سورية. مثلما تشكل الأجواء الراهنة فرصة فريدة لإيصال الصراع العربي - الإسرائيلي الى سلام شامل متضمنة عدم السماح بألعاب إسرائيلية للمنافسة بين المسارات، فإن التعاطي الأميركي غير الدقيق عبر: توجيه الضغط باتجاه الجانب العربي وليس حكومة نتانياهو واختصار قضية الصراع ب «تجميد» الاستيطان، البحث عن مرجعيات بديلة عن مؤتمر مدريد، استخدام الصراع ادواتياً لأهداف استراتيجية أخرى في المنطقة، سيؤدي الى نتائج مفاجئة تزيد من تعقيد الأزمات في المنطقة أو في احسن الأحوال العودة الى «إدارة» الصراع بدلاً من «حله» دون التأكد من قدرة المنطقة على العودة الى هذه المعادلة. * صحافي من أسرة «الحياة»