لو كان يصح تسمية الثورات العربية بأنها ثورة «فيسبوك»، لكان من الصحيح وصفها بأنها ثورة تلفزيون أيضاً، لكن كلتا التسميتين لا تصف ما حدث إلا كمانشيت صحافي، أو من باب المجاز، أو عنوان عابر لتناول وجه من وجوه ما حدث، فالثوار كانوا بشراً لهم وجود مادي في شارع بورقيبة بالعاصمة التونسية، وميدان التحرير بالقاهرة، وساحة التغيير بصنعاء، وواجهوا بصدورهم العارية كتيبة الفضيل بو عمر في بنغازي، ولم يكونوا مجرد حسابات افتراضية على شبكة الإنترنت. لقد سالت دماء عشرات الآلاف من البشر في ليبيا وسورية، ولم تكن المعارك معارك «تهكير» إيميلات، أو السطو على حسابات إلكترونية. مع تحفظي على وصف هذه الثورات بأنها ثورات «فيسبوك» أو ثورة فضائيات، إلا أنني سأشير هنا إلى التغطية التلفزيونية لهذه الثورات. فالثورة المصرية كانت أول ثورة عربية يتم تغطيتها فضائياً ساعة بساعة، ببث مباشر من ميدان التحرير، وتحليل للأحداث والمتغيرات في مختلف القنوات العربية، بانتظار شيء واحد: هروب أو تنازل الرئيس حسني مبارك عن السلطة على غرار ما فعل زين العابدين بن علي. هذا الزخم في التغطية الإعلامية لم يرافق الثورة التونسية لأسباب، فبالإضافة إلى أهمية مصر، وكونها من مراكز الإعلام العربي، فإن الثورة التونسية كانت هي النموذج، فهي من اجترح الثورات العربية بلا سابقة، لذا اضطرب الإعلام في تغطيتها والتعامل معها حتى قبيل هروب «ابن علي»، فاعتبرت أعمال شغب عندما اندلعت المظاهرات في سيدي بوزيد، ثم احتجاجات عندما بدأت تنتشر في قرى وبلدات تونسية أخرى، لتسمى بثورة الياسمين، قبيل هروب رأس النظام، عندما ضجت العاصمة التونسية بعشرات الآلاف من المتظاهرين في شارع بورقيبة. جاء الإعلام إلى الساحة المصرية وهو يحمل في عقله النموذج التونسي، فتم استخدام مسمى الثورة من اليوم الأول، والتأكيد على سلميتها من اللحظة الأولى، وإن لم تكن مطالب المتظاهرين متبلورة في البداية، كما صيغت بعد أيام، على غرار النموذج التونسي أيضاً، بسقف تخلي حسني مبارك عن السلطة، ومن هنا كانت الثورة المصرية حدثاً مختلفاً كذلك، لا بسبب فرادتها، فقد ذهبت تونس بالفرادة، ولكن لأنها تمت تحت عين الإعلام وبصره. عاش العالم العربي 18 يوماً من الترقب، وكان أكثر ما يستهلك في تلك الأيام التحليلات، والتخمينات، الرجم بالغيب، ومحاولة استشراف المستقبل. وهنا جاءت ثورة كلامية، فكان أكثر ما يستهلك في تلك الأيام إعلامياً – ولا يزال - لقب «محلل سياسي»، و«خبير استراتيجي»، كما حدث في اللحظات التي تبعت أحداث أيلول (سبتمبر)، فأصبح الجميع «خبراء في الجماعات الإرهابية»! ثم «خبير عسكري» أثناء تغطيات الثورتين الليبية والسورية اليوم، حتى أن أحد المحللين في إحدى القنوات لم يقل شيئاً صحيحاً طوال تغطية تلك القناة للثورة الليبية، ومع هذا استمر باجترار التحليلات «كخبير عسكري»! التغطيات التلفزيونية استمرت للثورات، ومتابعة التطورات والتحليلات عبر وسائط الإعلام الاجتماعي. وبالنتيجة، لم يقرأ الحدث بشكل معمق حتى الآن كما أدعي، وتم التعامل معه على غرار الطفرات، من دون وضعه في سياقه التاريخي من جهة، ومن دون قراءته بشكل عميق يتجاوز الإعلام اليومي في التلفزيون و«الإنترنت». كتبت دراسات كثيرة حول الربيع العربي في الإدارات الأكاديمية والبحثية الأجنبية، لكن الأعين في العالم العربي لا تزال مركزة على الشاشة، شاشة التلفزيون، أو شاشات الهواتف الذكية، وما زلنا بعيدين من الكتابة والقراءة حول هذا الحدث العربي المركزي في بدايات القرن ال21، والذي سيصبغ أحداث المنطقة العربية لعقود مقبلة، تلك الكتابة والقراءة التي يستحقها حدث بهذه الضخامة. المراجعات الإعلامية السطحية للثورات العربية أدت إلى نتائج سلبية فادحة، فعلى سبيل المثال، بدلاً من قراءة حدث التحول إلى الديموقراطية في الحال التونسية، والصراع بين الجيل القديم من السياسيين التونسيين والنخب التي جاءت بعد الثورة، تم التركيز على ما هو أكثر جاذبية – إعلامياً - متمثلاً في صراع حركة النهضة والسلفيين، وبدل الكتابة بشكل تفصيلي عن المؤثرين في مصر ما بعد الثورة، تم اختصار كل شيء إعلامياً في فريقين «الإخوان والفلول» لتسهيل تبادل الشتائم! ما جعل الكثير من التحليلات التي تتناول الحال المصرية تظهر مبتورة ومضطربة، وتكاد تنسى من قام بالثورة أصلاً، لذا نرى تحول الشخصيات المصرية المؤثرة من كونها «فلولاً» إلى كونها ثورية، ثم تعود لتوصف بأنها فلول بناء على علاقتها بمركز الحكم، هذه القراءة المختزلة اختصرت الثورات العربية كلها بصراع بين حكومات مستبدة وجماعة الإخوان المسلمين، بشكل جعل التحليلات تتحول إلى هذيانات، وشتائم مزرية. حتى صُور للمتابعة البسيط بأن الإخوان قادرون على فعل أي شيء في العالم العربي، بشكل أعطاهم أكبر من حجمهم الذي يستحقونه كجماعة لم تكن ثورية في يوم من الأيام. من المفيد الإشارة إلى بعض الكتابات حول الثورات العربية، أما تلك الكتابات التي تضع هذا الحدث المهم في سياقه التاريخي ككتاب السيد ولد أباه «الثورات العربية الجديدة: المسار والمصير»، الذي حاول فيه وضع الثورات في إطارها التاريخي، وقراءة الأوضاع السياسية في دول ما بعد الثورات قراءة سياسية/ ثقافية، وإن كان الكتاب جاء على هيئة يوميات ومقالات واكب تدوينها الأحداث، أو الإشارة إلى الكتابات التي حاولت قراءة الحدث قراءة فلسفية ضمن حقل الفلسفة السياسية، كما فعل عزمي بشارة في دراسة «الثورة والقابلية للثورة». * كاتب سعودي. [email protected] @balrashed