عاش هنري فريد صعب (1929-2013) أعوامه الأخيرة في شبه عزلة عن المعترك الأدبي اللبناني، منصرفاً على جري عادته، إلى القراءة والكتابة اللتين صرف لهما عمره وحياة بكاملها، انطفأت أول من أمس. في الرابعة والثمانين من عمره، رحل هذا الشاعر والناقد والمترجم عن عالمه الذي يمكن اختصاره في مكتبته التي كانت تحتل شقته، وبطاولته التي أمضى ردحاً طويلاً جالساً إليها، مستغرقاً في قراءاته وترجماته وكتاباته التي لم يكن يخرجها إلى الضوء بسهولة. فهو خلال حياته المديدة لم يصدر سوى ثلاثة دواوين وكتاب نقدي واحد، وقد أصدرها متأخراً جداً مع أنها كانت جاهزة منذ عقود. لم يبحث صعب عن الشهرة، على رغم حضوره اللافت في الوسط الشعري والأدبي في الستينات والسبعينات البيروتية وما بعد. كتب صعب في مجلة «شعر» و»الآداب» وسواهما من المجلات العربية، ثم في «مواقف» و»ملحق النهار» في عهوده المتتالية. ورافق بعض المجلات الجديدة والمنابر الشابة والتجارب ذات التوجه الطليعي وتابع الحركة الشعرية الحديثة والشابة ناقداً ومقدماً الأصوات المهمة. ودفعته ثقافته العميقة والشاملة وإلمامه بلغات ثلاث هي الفرنسية والإسبانية والإنكليزية إلى مواكبة الأدب العالمي وإلى ترجمة نماذج منه، طغى عليها الشعر. ولعله من أوائل من كتبوا عن الأدب الأميركي اللاتيني بالعربية وبخاصة عن ماركيز، فهو أمضى فترة من شبابه في غواتيمالا واحتك خلالها بأدب القارة العريقة عن كثب. كتب صعب شعراً أقل مما كتب نقداً وأقل مما ترجم. ومخطوطاته الآن لا تحصى والأمل بأن تخرج إلى الضوء فلا تبقى في أسر الأدراج والمجهول. كان صعب أمضى سنوات طويلة من غير أن يصدر ديواناً يجمع فيه قصائده التي دأب على نشرها منذ السبعينات في بعض الصحف والمجلات. إلا أنه فاجأ قراء الشعر عام 1999 بديوان أول عنوانه «في المسافة بين السهم والطريدة» (دار الجديد) وكان يشرف على السبعين. ولم يحمل هذا الديوان ملامح الأعمال الأولى بل بدا حصيلة مراس شعري يلتقي فيه البعدان اللغوي والفكري أو الثقافي. وإن كان الديوان الأول ذاك بمثابة دخول الشاعر عالم النشر فإن ديوانه الثاني الذي صدر عام 2003 بعنوان «ظهورات في دروب الغابة» (دار نلسن ) رسخ حضور الشاعر مانحاً إياه زاوية خاصة جداً في المشهد الشعري الراهن. أما ديوانه الثالث -وهو لن يكون الأخير- فعنوانه «أنا وأشيائي» وصدر عام 2007 وحفل بملامح جديدة لم يعرفها الديوانان السابقان. لا تشبه تجربة هنري فريد صعب أي تجربة أخرى في الشعر العربي الجديد، لا في مقاربتها الشعرية ورؤيتها ولا في اللغة المصقولة بروية، ولا في المعجم الذي تختزنه القصائد وهو حافل بالرموز والعلامات ذات الدلائل الفريدة. وقد تبدو شعرية صعب على مقدار من الغرابة في منابتها وذاكرتها وأسلوبيتها. ومرد هذه الغرابة النهج الشعري المختلف الذي استنه الشاعر مبتعداً عن «الراهن» الشعري وليس عن الشعرية الحديثة. كأن في قصائده إصراراً على المفهوم الشعري الراسخ الذي طالما حدد القصيدة تاريخياً كفن يجمع بين الصنعة والتأمل والرؤيا. وبدا الشاعر كأنه يعيد إحياء الفن الشعري كصنيع يحتاج إلى الكثير من التمرس والنضج والتؤدة والثقافة. لا تخلو قراءة شعر صعب وبخاصة ديوانه «ظهورات في دروب الغابة» من بعض المزالق، وإن لم يكن القارئ مثقفاً ومتضلعاً في الأساطير والملاحم والنصوص الصوفية والكتابات الحديثة فهو سيجد نفسه في متاهة شعرية لا يدرك أين تنتهي به. لكن مثل هذا الكلام لا يعني أن قصائد الشاعر هي ذهنية محض أو فكرية. فالشاعر الذي يرتكز إلى خلفية ثقافية عميقة يعيد صوغ المعطيات الثقافية شعرياً، منحازاً إلى مصلحة القصيدة وحدها. فعلاوة على الطابع الفلسفي أو الصوفي أو الميتافيزيقي في هذا الشعر يبرز الطابع الحكائي والحكائي - الحلمي والحكائي - الأسطوري، ذو المنحى الجديد. وتكفي العودة إلى دلالة عنوان ديوان «ظهورات في دروب الغابة» حتى تخطر في الذاكرة مقولات من مثل: الرؤيا (يوحنا ) والإشراقات (رامبو )واللمحات (السهروردي )والفتوحات (ابن عربي) وسواها من المقولات الصوفية والرؤيوية. ومعروف أن صعب دأب طويلاً على قراءة هؤلاء الشعراء والمتصوفين. غير أن الشاعر لا ينحاز إلى مقولة واحدة مثلما لم ينحز شعرياً إلى أسلوب واحد أو رؤية واحد. ففي «الذاكرة الغائبة» للقصائد أو النصوص تحضر الميتولوجيا الإغريقية وما قبل الإغريقية. وتحضر نصوص العهد القديم وأسفار الرؤيا وكتابات ابن العربي (ولا سيما الأولى منها) والنفري وبعض الكتابات الحديثة (ريلكه، رامبو، رولان بارت وسواهم...). إلا أن حضور هذه النصوص كلها يظل خفراً وداخلياً ولا يخرج إلى العلن خروجاً ضوضائياً أو صاخباً. لا يقدم شعر هنري فريد صعب مفاتيحه بسهولة. فالقارئ يشعر أن عليه أن يبحث بنفسه عن مفاتيح هذا الشعر. ولا يكفي أن يوضح الرموز والاستعارات والمجازات الكثيرة التي تحتل هذا الشعر كي يتمكن من استيعاب النصوص والقصائد بل عليه أن يستنبط أسرارها في السياق الشعري نفسه. لكنّ القارئ لا يشعر أن الغموض الذي يكتنف هذا الشعر غموض مفتعل ومقصود. فهو غالباً ما ينجم عن طبيعة هذا الشعر الذي يقرأ بالحدس مثلما يقرأ بالذاكرة والعين والمخيلة والعقل. إنها الكتابة الشعرية التي تواجه «الكتابة التي تبور» و «اللغة الشائخة» كما يقول الشاعر. كتابة السر والزمن الضائع والوهم والوجود ...وقد لا يكون مفاجئاً أن تغدو الصور الشعرية والمجازات والاستعارات غريبة بدورها وغامضة. إنه الشعر الذي يشبه حال التلاشي التي أوردها الشاعر في إحدى قصائده مستعيراً إياها من ريلكه: «تلاشيت من وطأة وجودك الأقوى كما لو ضمني فجأة ملاك إلى صدره». لعل الشعر الذي كتبه هنري فريد صعب، بعمقه ونزعته المجازية وصنعته المتقنة، بات من النادر قراءة ما يماثله اليوم، بعدما أضحى الشعر في القرن الحادي والعشرين، إما شعراً تجريبياً مغالياً في تجريبيته، وإما شعراً يومياً متحرراً من أسر المعنى واللغة معاً. عاد هنري فريد صعب إلى الجذور ليعيد كتابة القصيدة المفتقدة، منفتحاً في الحين عينه على تحولات النص الشعري الحديث.