تصدر قريباً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، «الأعمال الشعرية الكاملة» للشاعر الفرنسي آرثر رامبو، في ترجمة وتقديم للشاعر المصري رفعت سلام. يقع الكتاب في 640 صفحة، متضمنة ملفاً لصور رامبو في مراحل حياته المختلفة، ورسوماً قام هو برسمها أو رسمها له أصدقاء وفنانون، من بينهم «فيرلين»، و«ليجيه» و«بيكاسو». وفي ما يأتي مقطع من مقدمة سلام للكتاب: ما أطول الطريق الذي قطعته أعماله إلى أن تم تجميعها. كراسة إيزامبار، كراستا دوميني، ملف فيرلين: ثلاثة مصادر أساسية لأعماله الشعرية. كان ينسخ قصائده بنفسه، ويقدمها لأقرب أصدقائه. ومن هذه الكراسات، تم تشكيل الكتلة الأساسية من شعر رامبو، وبخاصة القصائد. والمصدر الثاني المهم لأعمال رامبو يكمن في رسائله إلى الأصدقاء أو المجلات. وما أندر القصائد المنشورة في دوريات أو مطبوعة، خلال حياته. هكذا لملم المحققون قصائد رامبو- واحدةً واحدةً - من هنا وهناك، على مدى قرن ونصف من العمل الدؤوب إلى أن اكتملت «الأعمال الكاملة»، على نحو يدعو للإعجاب، وبعض الحسد الثقافي المشروع. عمل يدعو إلى الإعجاب، ما قام به المحققون والنقاد والشعراء الفرنسيون لشعر رامبو، عاما وراء عام، حتى أصبحت المكتبة الرامبوية نُصباً شاهقاً، شاهداً على المكابدة والرهافة والتدقيق البالغ وراء كل أثر لرامبو. وهكذا يصبح أمام المترجم لأعمال رامبو جبل من الأعمال المتلاحقة الجليلة، المفعمة بالملاحظات والتأويلات والهوامش والتفسيرات، الأسطورية والثقافية والنقدية والسياسة والاجتماعية، التي لا تفلت- تقريباً- أي شيء. فماذا يترك المرء، وماذا يستبقي؟ ذخيرة ثمينة، نادرة، تضيء للمترجم النص الشعري، وغوامضه، وملابساته، ومراجعه، واحتمالاته. فكيف يمكن أن تكون «في خدمة النص»، لا عبئاً عليه؟ يقدم النشر الفرنسي نمطين أساسيين في تعامله مع أعمال رامبو (وأعمال مبدعيه عموما): الأعمال، محققةً، مدججةً بشتَّى التفاصيل البيبليوغرافية والتفسيرات والتأويلات، على الأصعدة كافة، مع رسائله ومخطوطاته ومسوداته والنسخ المختلفة من كل قصيدة، والأعمال، متخففةً من هذه الترسانة الثقافية، مكتفيةً بحد أدنَى من الإيضاحات، مع الرسائل الأساسية فحسب التي تكشف رؤيته الشعرية (رسالتا الرائي)، ونمط هامشي (أقرب إلى «الشعبي») يكتفي فحسب بالقصائد، لا غير، مع مقدمة موجزة. وإذا كنا اعتمدنا - بصورة أساسية - في عملنا على مرجع ينتمي إلى النمط الأول الشمولي (Arthur Rimbaud, ŒUVRES COMPLETES, Poésie, prose et correspondance; Introduction, chronologie, édition, notes, notices et bibliographie par Pierre Brunel, La Pochothèque, LE LIVRE DE POCHE, 1999.)، فإنما لنقدم ترجمةً أقرب إلى النمط الثاني، وإن كانت تزيد قليلاً عنه. فآفة النمط الأول الواضحة تكمن في مطاردة كل صورة شعرية، وتحويلها إلى دلالة مباشرة على واقعة ما حياتية أو تاريخية، أو ربطها بها ربطاً مباشراً، وأحياناً تعسفياً، بما يهدر الشعرية. فهو نمط من القراءة تجاوزه النقد الأدبي الأوروبي منذ عقود، وأسفر- في قراءته لأعمال رامبو- عن «تخريجات» فادحة الخطل أحياناً، ومضحكة أحياناً أخرى، ومتزايدة في كثير من الأحيان. وإذا ما كان ذلك النمط يلتزم قواعد «التحقيق» العلمي الفرنسي للأعمال الإبداعية، فلسنا - على أية حال- ملزمين بها، لأن عملنا يخرج عن «التحقيق» إلى «الترجمة»، من دون استخفاف - في الوقت نفسه - بالثروة الطائلة التي منحتها لنا المدرسة الفرنسية في تحقيق أعمال رامبو. ذلك ما يمنح القارئ الضروري من «المعلومات» الأساسية فحسب، فيما يمنحه أيضاً حرية التأويل، من دون الإلحاح عليه - أو توجيهه، أو حصاره - بالملاحظات النقدية، أو الربط الميكانيكي الفج بين الصورة الشعرية والوقائع الشخصية، أو الوقوع في شَرَك «شرح» معنى الصورة الشعرية. لا بد من الاعتراف بالفضل لأهله. هؤلاء المترجمون والكتّاب السابقون الذين اكتشفوا لنا - منذ عقود - رامبو، وجاهدوا واجتهدوا في ترجمة أعماله وتقديمها - وتقديمه كشاعر غير عادي - إلى القارئ والثقافة العربية. هؤلاء الذين حافظوا - أيضاً، على حضور اسم «رامبو» في ثقافتنا، على مدى أكثر من نصف قرن، بما قدموه - بين الحين والحين - من إضاءات ونصوص وأعمال تتعلق به. أعمال رامبو... وحياته وعلى المستوى الشخصي، لا يمكنني نسيان كتاب صدقي إسماعيل عن «رامبو» هذا النمط الفريد المندثر من الكتابة الجميلة في السيرة الذاتية، تلك الكتابة التي تمزج - في لغة مرهفة وبسيطة ودافئة - بين الشعري والشخصي، على نحو يفتح الشهية الذهنية إلى مواصلة البحث عن الشاعر، في أعمال أخرى. كتابة مُحبّة، بلا ادعاءات، مخلصة، بلا ذاتية. ولا يمكن التغاضي عن «ثورة الشعر الحديث» للدكتور عبدالغفار مكاوي، الذي أضاء التجربة الشعرية لرامبو، مع غيره من الشعراء الفرنسيين الكبار في القرن التاسع عشر. اختلف المترجمون العرب في كتابة اسم رامبو الأول Arthur. ففيما يكتبه البعض بالتاء «آرتور»، يكتبه البعض الآخر بالثاء «آرثور» أو «آرثر». وإذا ما كانت الصيغة الأولى هي الأكثر فرنسية - أي الأصوب، وفقًا للنطق الفرنسي- فإن الثانية هي الأكثر شيوعا حتى الآن في الكتابة العربية. لذا، فقد ملتُ إلى استخدام الطريقة الشائعة المستقرة في التعامل مع اسم رامبو، مع تطبيق النهج نفسه على بعض الأسماء التي تطرح نفس المشكلة. أما الكلمات الفرنسية الواردة في «الجمع»، التي لا نجد مقابلاً لها باللغة العربية، أو سيأتي المقابل «فظًّا» إذا ما لوينا عنق اللغة، من قبيل كلمة aube = فَجر، أو كلمة automne = خريف، أو faim = جوع، فلم أحاول القيام باشتقاقات أو معاظلات لغوية، أو إحياء كلمات عربية ترقد رقاد الصالحين في قواميس العصر الوسيط، بل اعتمدت «الاسم» المفرد الدال على العموم. ولا بد أن عرفاني بقيمة ما كتبه الدكتور عبدالغفار مكاوي، وما كتبته سوزان برنار عن رامبو- وهو متاح ما يزال بين يدي القارئ العربي- هو ما ساهم في تقليل حماسي لكتابة مقدمة مطولة عنه. والمفارقة أن المؤلفَين- على غير اتفاق- يكملان بعضهما البعض، فقد ركز الدكتور مكاوي- بالأساس- على النصوص المنظومة لرامبو، فيما ركزت سوزان برنار- بالأساس- على قصائد النثر لديه. وفي كلتا الحالتين، فثمة قراءة عميقة ونافذة لمنجز رامبو الشعري، وفتوحاته، ومرتكزاته ومغامرته الفادحة في الرؤيا والرؤية ونفاذ البصيرة. وكم تمنيت لو كان ممكنًا دمج الفصلين معًا في عمل واحد! إذن لخرج لنا أهم عمل بالعربية عن الشاعر الفرنسي. تضم هذه الترجمة لأعمال رامبو نصوصاً شعرية لم يسبق ترجمتها إلى العربية، حتى الآن. ومن بين هذه النصوص مساهمات رامبو الشعرية في ما يُعرف ب»الألبوم الملعون Album Zutique»، من قصائد ساخرة، تهكمية، معارضة لقصائد أهم شعراء تلك الفترة. إنه أحد وجوه رامبو الشعرية في أقصى تجلياته. ولم يكن ممكناً - رغم الصعوبات الاستثنائية لترجمة التلاعبات اللفظية - أن يتم التغاضي عن هذه النصوص. ومن بين هذه النصوص الشعرية أيضا نصوصه الإباحية في ما يُعرف- في أعماله الكاملة الفرنسية - ب«البذاءات أو الإباحيات Les Stupra»، التي تمثل- بدورها- وجهاً آخر شعرياً لرامبو، لم يسبق ترجمته عربياً من قبل. ويُفرد المحققون الفرنسيون لهذه الأعمال أقساماً مستقلة ضمن أعمال رامبو الكاملة، وهو ما التزمنا به أيضاً. وقد احتفى السرياليون احتفاء خاصاً بهاتين المجموعتين من نصوص رامبو الشعرية، كلما تم العثور على نص منها، وقام أندريه بروتون ولوي أراجون بنشرها تباعاً في المجلة التي كانا يشرفان عليها Littérature. إذن، فلهذه النصوص قيمة مؤكدة، وإن تكن مغايرة - غير تقليدية - تفرض احترامها ضمن أعماله الشعرية الكاملة. اعتاد محققو أعمال رامبو على تقديم قصائده وفقاً لتسلسلها التاريخي. وفي ذلك، يقطعون سياق «القصائد» ليقدموا «الألبوم الملعون» و»البذاءات»، ثم يعودون بعدهما إلى استكمال القصائد بما يسمونه «القصائد الأخيرة» أو «قصائد جديدة» أو غيرها. ولم أجد مبرراً شعرياً لقطع سياق القصائد بالمجموعتين المغايرتين، فنقلتهما إلى نهاية القصائد، بحيث تتالَى القصائد بلا انقطاع - ولا فصل - إلى نهايتها، مع إلغاء عنوان «القصائد الأخيرة» (العنوان هو من اقتراح المحققين، لا من صنع رامبو)، وبعدها تأتي المجموعتان. ولم تكن مراسلات رامبو من عدن وهراري - بعد أن غادر أوروبا والشعر تماماً - لتضيف ضوءاً ذا بال إلى شعره (قد تضيء مأساة وجوده الشخصية). لذا، فلم تبدُ لنا جديرةً بالاهتمام إلى حد الترجمة، أو- حتى- ترجمة مختارات منها. وذلك ما يغاير قيمة مراسلاته «الأدبية» خلال حياته الفرنسية، التي انتقينا منها أهمها وأكثرها دلالة. أما «موقعة بروكسيل» - تلك المشاجرة العاصفة بين فيرلين ورامبو، التي وصلت إلى حد إطلاق فيرلين الرصاص على رامبو- فبدت لنا أكثر أهمية (ويرصد كثير من المحققين رموزها وإشاراتها في نصوص «فصل من الجحيم»، بصورة خاصة). ولذا، فقد خصصنا لها ملفّاً وثائقيّاً، بلا تأويلات، ضمن الملاحق. أما «القاموس»، فقد اعتمدنا على بعض الموسوعات وقواميس الأعلام القرنسية والإنكليزية في تشكيله، ومن بينها موسوعات شبكة «الانترنت».