بعد 12 سنة على صدور مجموعتها القصصية الأولى «البحث عن يوم سابع»، أصدرت الكاتبة السعودية ليلى الأحيدب روايتها الأولى «عيون الثعالب». لعل ما يلفت الانتباه - ابتداء - أن كاتبة نشطة في الحركة الأدبية منذ ربع قرن تقريباً، ولا تنشر سوى كتابين، هي كاتبة لا تُخضع نفسها لأي «التزام»، لا مع الناشر ولا القارئ ولا حتى مع فعل الكتابة ذاته، الذي يحوله البعض إلى «حرفة»، بإصدار كتاب كل عام ليضمن البقاء تحت الضوء. أما عنوان «عيون الثعالب»، كعتبة إلى النص الروائي الذي يقع في 306 صفحات، فيشي بدلالات مثل: بريق، مخاتلة، خفة، خسة، مراوغة ومكر. وإذا فتشنا بين سطور النص سنجد: عيون/ الثعالب، يتكرر أكثر من مرة، بظلال مختلفة: «لكنني لا أزال مراهقة ومجنونة وأكره الثعالب» (ص34)، «كان يحاول أن يخفي تركيزه عليّ لكنني كنت ألحظ عينيه وهما تقيسان جسدي شبراً شبراً». يحيلنا اختيار العنوان في صيغة الجمع إلى مجموعة من النماذج البشرية، تشترك في ثعلبيتها أو في كون الثعلب رمزاً دالاً عليها. وثمة أمران جوهريان في «شخصية الثعلب» ينعكسان على معظم شخصيات النص، وهما: قصر العمر (أو التجربة)، والانتهازية، فالثعلب حيوان آكل للنبات والحيوان على السواء، أي نهاز فرص. وهو ما يتردد صداه في النص كثيراً: «كل المثقفين نصوص رديئة، نصوص مستهلكة ومليئة بالثقوب، نصوص مستذئبة! يبقى المثقف مثقفاً محترماً حتى يقتنص الأنثى بداخلك، عندها يتحول لذكر يفتض كل بكارات روحك، مزهواً بنفسه». إن بطلة الرواية «مريم» فتاة جامعية بنت ال20 ، كاتبة شابة تدخل إلى الوسط الثقافي بأحلام وردية ومشاعر متأججة، وصخب وعنفوان، وتلقي شباكها مباشرة على فارس الأحلام «عليّ» المثقف البارز والملهم، شبيه الممثل الشهير جون ترافولتا، والذي لم يتزوج على رغم أنه تجاوز الأربعين. تنشأ علاقة مركبة، مرتبكة بين «مريم» و«علي»: حب وحساسيات أسرية ومجتمعية، وزواج بمذاق الفراق.. تمثل عصب الرواية، وتمنحها الشجن والرومانسية. وفي الوقت نفسه تأتي وراء علي مجموعة كبيرة من النماذج الذكورية ممثلة للمجتمع السعودي عموماً، ولمثقفيه خاصة مثل: يوسف (العاشق الاحتياطي لمريم)، سعيد، مشعل، منصور، أبو معاذ، فهد، صالح، ناصر (الشاذ)، العم عبدالعزيز والأب الأقرب إلى مهادنة الاتجاهين.. كما تأتي وراء «مريم» قائمة نماذج نسائية: الجدة لطيفة، الأخت ريم، مشاعل، منى، عبير، ندى، عائشة، ومنيرة. مجموعتان: ذكورية وأنثوية، تتعاطيان - علناً - ثقافة «العزل» في الأعراس والجامعة والشارع، وسراً ثقافة «التمرد والاختلاط» في بيوت المثقفين وشققهم المخصصة للسمر والنقاش والمتع. وإن كان بالإمكان دمج النماذج وتكثيفها حتى لا يتشتت المتلقي في تفاصيل شخصيات ثانوية جداً. تبدو زمكانية الرواية محدودة، فخطابها لا يغطي سوى أربع سنوات تقريباً من عمر البطلة خلال الدراسة الجامعية، والتي شهدت حبها العنيف، المأسوي ل «عليّ» مع الأخذ في الاعتبار استعادات باتجاه الطفولة أو استشرافات بسيطة باتجاه المستقبل. أما فضاء النص فهو يركز على الجانب الحضري أو المدني من المجتمع السعودي: الجامعة، الشقق، المكاتب، المستشفى. ولا تبذل الأحيدب جهداً كبيراً في توصيف المكان إلا بما يخدم حركة السرد. تلك الزمكانية المحدودة نسبياً، كانت كافية لرصد تناقضات المجتمع السعودي المحكوم بصراع الحداثة والقيم التقليدية المتوارثة، وهي تناقضات - على المستوى العاطفي - مكرسة لإدانة ازدواجية الرجل الشرقي، ورصد - لا يخلو من شاعرية - لصور المرأة المهانة والمنتهكة. وعلى المستوى العقلاني لإدانة وتعرية النخبة المثقفة من دعاة الحداثة والتنوير. فإذا أخذنا في الاعتبار أن الأحيدب كاتبة تنتمي إلى هذا الوسط، يمكن القول إن تلك الإدانة أقرب إلى النقد الشجاع والصريح جداً للنخبة. وقد تأسست حركة السرد ابتداء على «الفضول والاكتشاف»، ورغبة «مريم» في اكتشاف عالم «عليّ» والولوج إليه مهما كلفها الأمر، تلك الرغبة أسست لصوت راوية مشغولة بالمراقبة والتحليل وتجميع الشواهد والإنصات إلى الآخرين، وتأمل سلسلة لا متناهية من التناقضات، ما بين شخصيتي «مريم/علي»، وبقية الثنائيات الغرامية الأخرى في النص، وما بين النماذج «المثقفة» والنماذج الملتزمة بالتقاليد والعادات، وما بين شعارات النخبة واشتباكها مع حركة المجتمع التقليدي. إذاً ثمة وفرة من التناقضات والثنائيات، وبالتالي في الخطابات المتضمنة في المتن كالشعر والفتاوى والأغاني، أسست لثلاث مستويات لغوية: لغة أدبية متعالية لا تخلو من «كليشهات»، لغة فصيحة متداولة، ولغة دارجة قلية الحضور خصوصاً في الحوار ولا تخلو من مفردات وتعابير أجنبية أو نبرة كوميدية. تلك التناقضات والخطابات والمستويات اللغوية الثلاثة أضفت على السرد حيوية لا يحتاج معها إلى علامات كبرى كالفصول والمشاهد. فهو ينساب كجريان النهر، لا يقطعه - أحياناً - سوى صفحة بيضاء أشبه بهدنة موقتة أو مساحة صمت. ثم يسترد حركيته المدهشة ما بين مونولوج جديد أو استعادة أو تحليل لإحدى الشخصيات أو رسم مشهد أو استئناف موقف أو حالة. وإجمالاً يمكن القول إن ثمة ثلاثة مداخل جديرة بالاعتبار في قراءة وتفكيك «عيون الثعالب»: الأول: سوسيولوجي، يظهر طبيعة الصراع المجتمعي المعقد، ما بين الحداثة وما تنادي به من قيم العقل والحرية الفردية، وما يعيشه أتباعها من حياة بوهيمية وفوضوية وأنانية، وبين «الأصولية» أو التقليدية بتكريسها لقيم السمع والطاعة والنقل، وهيمنة الديني على كل صيغ الوجود. والواضح طبعاً أن الرواية أكثر نقداً وقسوة على الاتجاه الأول، ورؤيته من الداخل والخارج. وهذا النقد المجتمعي كان جريئاً، حاداً، وبلا مواربة: - «العوائل المحافظة تعتبر الكتابة في الصحف خروجاً على السائد ونوعاً من التحرر، ولو نشرت ما أكتب باسمي الحقيقي لكتبت عن كل شيء إلا ما أشعر به» «كنا أنا وريم في ليالي الأرق، نتسلى بجمعة أصدقائه، حتى منى دخلت معنا في اللعبة، وكنا في جمعاتنا المتأخرة نتصل بهم لنتسلى، يكلمنا مشعل، ثم يلتقط السماعة آخر». «كان الشريط الذي أحضره عمي يتحدث عن الهدم الفكري الذي يمارسه الإعلام، مشيراً إلى موجة الحداثة» «الثلج الأسود في قلب الشيخ الذي لم يهدأ حتى هيج المجتمع ضد أسماء ليس لها ذنب ولا جريرة؛ ما ذنب جواهر حتى تقصى من التدريس وتحال إلى عمل إداري، ألأنها مثلت الدولة في مهرجان ضخم ونشرت لها صورة؟» الثاني: نسوي، فنحن أمام تصوير وتفكيك ثقافي للمجتمع السعودي من منظور نسوي، فالبطلة هي نفسها الراوية بضمير الأنا، ويمكن أن نعتبرها مرآة شديدة الحساسية لكاتبة تنتمي إلى الواقع ذاته، بعيداً عن سذاجة الطرح بضرورة التماهي بين الكاتبة والبطلة، والنبش باستمرار في النص على أنه «سيرة ذاتية مموهة قليلاً»، لأن الأحيدب منذ البداية تبني عمارة روائية «موضوعية» إن جاز التعبير وبالتالي، لا تجد حرجاً من إهداء نصها إلى «رجل» ولا في ذكر اسمها الرباعي، أو وضع بريد إلكتروني للتواصل مع القارئ، فتلك العلامات (خارج النصية) تؤكد ثقتها التامة بدورها ومسؤولياتها وشجاعتها ككاتبة في مجتمع شديد المحافظة، وبالتالي لا مجال للمقارنة بين شخصية الكاتبة وشخصية البطلة، وإسقاط هذه على تلك، رغم وهنا المفارقة أن البطلة ذاتها تنتمي إلى الوسط الثقافي الذي تنتمي إليه الكاتبة. من خلال المنظور النسوي يمكن قراءة العلاقة الرومانسية، بمستوياتها المختلفة، وتعقيداتها، التي ربطت بين بطلي الرواية «علي ومريم»، ورغبتهما في التحرر والانعتاق من هالة القداسة المجتمعية المنسربة حتى إلى اسميهما. وهي العلاقة التي شكلت الإطار الأساسي للرواية كلها، وكأننا أمام رواية رومانسية بحساسية نهاية القرن ال20. وإن أفرطت الكاتبة في رسم صورة مبالغ فيها جداً ل «علي» وإحساسها به وتوقعاتها منه ومقارنته بصديقها الآخر «يوسف»، ما استهلك تقريباً ثلثي الرواية، كأنها مقدمة طويلة جداً، بينما الحبكة والعقدة والتحولات الجذرية كلها حدثت في الثلث الأخير فقط، وهو الأكثر ثراء. وقد يشعر القارئ في رسم صور النساء تحديداً بهذا الحضور الخفي لكتابات إحسان عبدالقدوس، فصور المرأة وتنويعاتها ما بين الرومانسية والبراءة والخشونة الرجالية والطيبة والمكر، والحس المدني لا الريفي، وازدواجية الرجل الشرقي، كلها تذكرنا بأعمال إحسان مثل:«أنا حرة»،«النظارة السوداء»،«الوسادة الخالية»، «لا أنام»، و«أنف وثلاثة عيون». يضاف إلى ذلك طبيعة اللغة التي تتميز بدرجة كبيرة من السلاسة والبساطة والأناقة في التعبير والتوصيف. - «أحبت ندى سعيد وهي تعرف أنه متزوج ولديه أطفال وأقامت علاقتها معه وفق هذه المعرفة» - «وهل تعتقد أنني أوقفت حياتي عليك؟! أنا أيضاً لدي أصدقاء تربطني بهم علاقة رائعة» - «حتى علاقتي بيوسف كانت أجمل ما تكون وأنا لصيقة ب «علي» آلمني وجرحني أن يتعامل معي بكل هذا اللؤم الذكوري» الثالث: أقرب إلى النقد الثقافي، فالرواية تقدم تحليلاً واعياً للاتجاهات الثقافية المهيمنة على المجتمع خصوصاً: الديني والحداثي، وصراعهما باهظ الثمن سواء في وسائل الإعلام أو بين فئات المجتمع، وتأثيرهما الفادح على الشخصيات، وهذا هو المستوى الأعمق وراء الإطار العاطفي للرواية. - «أحب الرائحة الرجولية، مللت رائحة الإناث التي خدرتنا طويلاً» - «هل كنت مهتمة بالنقاش الدائر حول الحريات؟ أم حول الحداثة الملاحقة؟ أم حول الهجمات الشرسة من أئمة المساجد على رموز الحداثة» - «انظري كيف تتقرب من سعيد هذه الحية! تدرك هي اللعبة أيضاً، وتتقرب ليكتب غداً عنها كتابة لافتة». ويمكن بطبيعة الحال، قراءة الرواية ليس فقط في تصويرها للمجتمع السعودي بمصداقية، وجرأة لافتة، بل في سياق المقارنة مع نصوص سعودية سابقة عليها لامست الكثير من المسكوت عنه مجتمعياً. ثم قراءتها كذلك في سياقها العربي الذي تفرضه شراكة اللغة والثقافة، والبحث عن المصادر الروائية والشعرية العربية الممتزجة في طيات النص، وإن أبقت لنا الكثير من العلامات، مثل مقاطع شعرية منسوبة لأصحابها. إن رواية «عيون الثعالب» تملك عينين ثاقبتين وروحاً نافذة إلى ما وراء الظواهر، تقف متربصة بكل «النماذج» ذكورية ونسائية ناقدة وناقمة ومتعاطفة، وإن أخفت ببراعة إطلاق الأحكام أو المصادرة أو تمرير أيديولوجيا خاصة بها، بل رسمت الوسط الثقافي وشخصياته بحس تصويري وتحليلي أقرب إلى الحياد، وعلى رغم شجاعتها في تسمية الأشياء بأسمائها، فقد تركت إصدار الأحكام وبناء المواقف إلى القارئ نفسه. فكل شخصية حملت نقاط ضعفها وبذرة مأساتها، وتوجهاتها الفكرية والمجتمعية، وتم تحليلها وتنضيدها من الداخل، ومن العمق، بعيداً عن الوصف الخارجي والظاهري للملامح إلا باقتضاب شديد. ما أكسبها الخصوصية والفرادة حتى وإن تقاطعت مع «نماذج» كثيرة نعايشها إجمالاً في الوسط الثقافي العربي وبالآليات ذاتها.