فوة إحدى أشهر مدن العالم الإسلامي في العصور الوسطى، كثيرون لا يعرفونها اليوم، لذا فإعادة اكتشافها، بمثابة إحياء مدينة كانت طوال العصر المملوكي المحطة الرئيسية للتجارة بين الشرق والغرب، في شمال دلتا النيل بمصر، عندما يأخذ فرع رشيد اتجاهاً غربيّاً منذ دخوله أراضي محافظة كفر الشيخ يصنع على بعد 35 كيلومتراً ثنية كبيرة تقع مدينة فوة في بدايتها، وهي ممتدة على ساحل النيل نحو 4 كيلومترات. هكذا وصفها الجغرافي الشهير الإدريسي وابن بطوطة، اللذان أكدا وجود جزيرة قبالة شاطئ فوة، ما زالت موجودة إلى اليوم. فوة من أقدم مدن دلتا النيل، حيث كانت عاصمة الإقليم السابع بمصر الفرعونية، الذي كان يطلق عليه «إمنتي»، أو «نفر إمنتي»، التي تعني الإقليم الغربي الأول. أما فوة فكانت تدعى «برجانب إمنتي» أي بيت الإله سيد الغرب. بينما سماها الإغريق مينتليس أي بلد الأجانب، أما إميلينو الجغرافي الشهير فذكر في قاموسه أن اسمها بوة، ثم قلبت فاء، كما حدث في مدينة الفيوم. في العصر المملوكي حفر خليج من الناحية الأخرى لشاطئها، لتدخل به سفن البضائع القادمة من البحر المتوسط عبر الإسكندرية، لتستقر في فوة، حيث كانت - لوقوعها داخل البلاد - أكثر أمناً من الإسكندرية ورشيد، لذا صارت مركزاً تجارياً مهمّاً، وترسخ بها العديد من الحرف التقليدية، كصناعة السكر والنسيج والنحاس وغيرها، وما زال العديد من مساجدها دالاً على هذا الازدهار، ومعظمها يعود للعصر المملوكي، وجدَّد في العصر العثماني وعهد أسرة محمد علي. عرف عن أهل فوة حبهم للمساجد وكافة أوجه أعمال البر، لذلك أوقفوا الكثير من الأراضي والعقارات على مساجد فوة. وتزخر وثائق محكمة فوة الشرعية بالكثير من هذه الوقفيات، التي تدل على تأصل نزعة الخير وحب المساجد وتعميرها لدى المجتمع الفوي، فقد اشترط أحد الأهالي أن يخرج من أملاكه للصرف على هذه المساجد. إن أروع مشهد يمكن أن تشاهده في هذه المدينة، إذا ركبت مركباً صغيراً في النيل، وسارت بك محاذية للشاطئ هو أن ترى من كل زاوية المآذن البيضاء التي يرتفع بعضها في عنان السماء. بل تذكر الوثائق أن بين كل مئذنة مسجد ومسجد مسجداً ومابين كل زاوية وزاوية زاوية، حتى يكاد الذهول يصيب المرء من كثرتها، لكن كلاً تنبض بالحياة، بل إن كل واحد منها يفترق عن الآخر في التفاصيل، فتكاد تحس بذاتية كل منشأة وقد تميزت عن غيرها، غير أن روحها جميعاً واحد. أدعوك لتزور معي بعضاً من هذه المساجد: مسجد أبو المكارم يقع هذا المسجد على شاطئ النيل، تتقدمه على الشاطئ حديقة كانت غناء في العصور السالفة، يعده أهل المدينة من مساجدها المهمة، إذ إنه ينسب لأحد كبار المشايخ الذي يعود للعصر العثماني، ثم جدد في القرن التاسع عشر الميلادي بمبالغ طائلة، إذ له واجهة معمارية رائعة بها ثلاثة مداخل، ومئذنة من الجص الذي كسا المئذنة من أسفلها إلى أعلاها، وتأثر معمار هذه المئذنة بالمآذن المملوكية، مع مسحة معمارية تنسب إلى عمارة مآذن دلتا النيل. المسجد من الداخل عبارة عن خمسة أروقة مقسمة بواسطة أربع بائكات محمولة على أعمدة رخامية وغرانيتية يعلوها عقود مدببة، وبحائط القبلة ثلاثة محاريب أكبرها أوسطها. مسجد العمري أقدم مساجد فوة إذ شيد بعد الفتح العربي لفوة، وهو مسجدها الجامع في العصور الإسلامية الأولى، وما زال إلى اليوم بلا مئذنة، وتخطيطه يشبه المساجد الإسلامية الأولى، إذ يتوسطه صحن تحيط به أربعة أروقة، جدد آخر مرة في القرن التاسع عشر الميلادي. مسجد القنائي هذا المسجد يعود للعصر المملوكي، له مئذنة شاهقة الارتفاع، على واجهة حوانيت وقفت عليه، كما أن به منبراً رائع الصنع، ومزولة في سطح المسجد على جدران المئذنة تحدد أوقات الصلاة، وعلى جدرانه مراسيم مملوكية من الرخام صدرت لتخفف مظالم وترفع مظالم وقعت على أهل المدينة، أشهرها يعود للسلطان الظاهر برقوق وقنصوه الغوري، وكان خلف هذا المسجد حمام شهير مكون من قسمين: قسم للرجال وآخر للنساء، هدم في سبعينات القرن العشرين. مسجد حسن نصر الله كان هذا المسجد مدرسة أنشأها الأمير حسن نصر الله الذي ولد بفوة، واندمج في دولة المماليك الجراكسة، تولى مناصب عدة منها الحسبة ونظارة الجيش والوزارة، بنى هذه المدرسة بعد محنة تعرض لها، ثم جددت في العصر العثماني، على يد سليمان أرجبي، وهو من كبار رجال فوة. لكن أكثر ما يلفت الانتباه في فوة هو تكية الخلوتية، التي تحولت الآن إلى مركز لتنمية الوعي الأثري، هذه التكية كانت تشتهر بدورها في المدينة في المناسبات الدينية، فالصوفية المقيمون بها كانوا يخرجون في موكب حافل في كل مناسبة، يرددون الأناشيد الدينية. تتكون التكية من طابقين، ومدخلها من عقد مدائني على غرار مداخل مساجد المدينة، والتكية تجعل قدميك تقودانك إلى القيسارية، وبالقرب منها سوق الديوان، هذه القيسارية هي سوق تجاري ومركز حرفي، إذ تشتهر بصناعة وتجارة النحاس وأصبحت منتجاتها تحفاً يرغب في اقتنائها كل زوار المدينة. أما أنك ما زالت في فوة فلا بد أنك ستتناول إحدى وجبتين على الأقل، إحداهما الفول الفوي الذي تتم تسويته بطريقة خاصة بأهل فوة، ويقدم مع الزيت الحار، وهو زيت بذرة الكتان، أما الوجبة الثانية فهي الفسيخ، أي السمك البوري المملح في براميل خشبية عتيقة، يجيد سكان فوة منذ قديم الأزل هذه الصنعة، وتعد فوة مركزها الرئيسي في مصر، ولا شك أنك حين تغادر فوة ستحمل معك السمك المملح أو السردين المملح. وأهل فوة أهل دعة وفكاهة ويحبون الحياة، لذا كانت منازلهم دائماً تنبئ عن ذلك. لكن أطرف هذه المنازل وأقدمها ربع الخطابية، والرباع من المنشآت التي انتشرت في العمارة الإسلامية، ووظيفته تقارب وظيفة الخان، أي أنه مخصص لاستقبال وإقامة زوار المدينة، للربع واجهتان تطلان على شارعين، يتكون من ثلاثة طوابق، الأراضي عبارة عن مخازن واسطبلات للخيول، ويوجد بابان للربع: الأول في الواجهة الشرقية ويصعد إليه بسلم بطرفين، كل طرف من ثلاث درجات، يلتقيان ببسطة يليها باب له خوخة، والخوخة باب صغير بداخل باب كبير، يقع الباب الآخر في الواجهة الشمالية، وهو باب بسيط معقود يؤدي لسلم الخدم. والمبنى به غرف وقاعات بجدرانها دواليب خشبية، وواجهتا المنزل بهما مشربيات من الخشب الخرط، الذي يعرفه العامة باسم الأرابيسك. وعلى شاطئ النيل بفوة ما زال باقياً مصنع للطرابيش أنشأه محمد علي عام 1824م، لصناعة الطرابيش لجيشه، والإنتاج الذي كان يزيد على حاجة المصنع كان العامة يشترونه. وبالقرب منه بقايا بوابة مصنع غزل القطن، التي يعرفها أهل فوة باسم بوابة مالطة، كان معظم إنتاج هذا المصنع يصدر إلى أوروبا. أما عن الحرف التقليدية في فوة فما زالت راسخة إلى اليوم، منها ما هو بسوق الديوان الذي كان منشأة الكليم اليدوي، الذي يتلهف عليه زوار المدينة والسياح القادمون إلى مصر، حيث ينتشر الكليم الفوي في القاهرةوالإسكندرية لجودة صناعته وألوانه وزخارفه المميزة. ويصنع الكليم بأنوال الفويين في الدور الأرضي في منازلهم، أو في محال صغيرة، أو في قاعات كبيرة كقاعة الرملي. ولأن صناعة الأخشاب وزخرفتها كانت مستقرة ومزدهرة بفوة منذ العصر المملوكي، ما زال الحرفيون بفوة يجيدون صناعة الأثاث، وكانت أسرة نعمة الله الفوية اشتهرت في العصر المملوكي بصناعة منابر المساجد ودكك المبلغين والمقاصير الخشبية، وفي العصر العثماني ومع ازدهار مدينة رشيد التي تقع إلى الشمال الغربي من فوة، انتقل بعض أفراد هذه الأسرة للعمل في رشيد، وما زالت مساجد كل من فوة ورشيد تذخر بالعديد من القطع الفنية الممهورة بتوقيع صناع من أسرة نعمة الله. لم تكن فوة مدينة للمصريين فقط، بل كانت مدينة تجارية تعيش بها جاليات من عدة دول، أغربهم من أوكرانيا وأكثرهم قدماً من البندقية وجنوة في إيطاليا ومنهم من جاء من حماة وحلب، عمل جميعهم في الاستيراد والتصدير، وعاشوا أو تعايشوا في فوة، واستقر بعضهم فيها، لذا فلا تستغرب حين تزور فوة من سرعة اندماج أهل المدينة معك، فتحس بشعور عجيب وكأنك واحد منهم.