كان بيتر - بول روبنز رسام قصور ومدن وحياة رغدة في المقام الأول. بالكاد كان يعرف الريف أو يعرف شيئاً عنه. أو لنقل إنه كان يعرف الريف في شكل أو في آخر فإنه كان على الأرجح يعرفه من خلال لوحات سلفه بروغل العجوز، ذاك الذي كان - وسيظل - من أعظم الرسامين الذين خلّفوا لوحات تصف حياة الفلاحين، لتقول في نهاية الأمر إنها لم تكن حياة الفرح والدعة التي يؤمثلها أهل المدينة ويحلمون بها. حتى في أعيادهم، كان أهل الريف - كما رآهم بروغل على الأقل - تعساء متألمين، عاجزين عن التأقلم مع حياة تأكلهم لأنها تعطيهم ما يأكلون، حياة كانت وبقيت دائماً في أوروبا كما في غير أوروبا حياة البؤس ومصدر تعاسات البائسين. بالنسبة إلى بروغل، وسط صعود المدن الهولندية الثرية في ذلك الحين، لم يعد الريف مكاناً مثالياً للتمازج الخلاق بين الطبيعة والإنسان، كما كان بدأ يحلم به مفكرو النهضة ورساموها فور الخروج من العصور الوسطى، بل أضحى هذا الريف مكاناً للحزن والأسى والمحاولات الفاشلة للبقاء على قيد الحياة وسط طبيعة قد تكون في بعض الأحيان كريمة معطاء لكنها لا يمكن أن تكون كذلك في كل حين. ولعل هذا ما يمكننا أن نلمحه إن نحن دققنا النظر في لوحات بروغل الريفية (وما أكثرها!)، حيث، حتى وسط الصخب والرقص والأعياد والأفراح، يهيمن الحزن والخوف من الغد وما يحمله ومن التآكل البشري اليومي، على نظرات وملامح عرفت ريشة بروغل الواقعية القاسية كيف تعبر عنها. لقد شاء روبنز التلميذ النجيب لبروغل، أن يغوص ذات مرحلة من حياته، في ثنايا حياة الريف، فتأمل لوحات بروغل كثيراً، وكذلك شاهد جيداً لوحات ريفية رسمها معاصره أدريان بروير - وغيره من كبار فناني تلك الأزمان سواء منهم الذين افتتنوا بالبريف وجمالياته أو من الذين ألقوا عليه نظرات قاسية اعتبروها واقعية تنسف الأكاذيب الفردوسية المتوارثة والمتداولة - ثم بدأ جولة قادته إلى أعماق الريف نفسه ليختبره ويعيشه في شكل ميداني وقد اصطحب معه ألوانه وريشاته، فإذا به يفاجأ: ليست الأمور على الصورة التي تركها لنا بروغل. ليس الريف تعيساً إلى هذا الحد! هل كان هذا، على أية حال، ناتجاً من وجود فارق زمني يحسب بعشرات الأعوام بين الزمن الذي حقق فيه بروغل روائعه الريفية الحزينة، وبين الزمن الذي زار فيه روبنز الريف؟ أبداً... ففي حقيقة الأمر لم يكن ممكناً القول إن الأمور في الريف قد أصابها أي تبدّل جذري. الواقع أن التبدّل حدث في النظرة. بروغل رأى الأمور من الداخل، في الوقت الذي شاهد فيه روبنز حياة الريف من الخارج. وكأننا هنا وسط ذلك السجال المدهش الذي ثار في الحياة الفنية المصرية حين غنى محمد عبدالوهاب رائعته «محلاها عيشة الفلاح» فشتم وانتقد، لأنه رسم في أغنيته صورة كاذبة: فحياة الفلاح ليست على تلك «الحلاوة» بالتأكيد. السجال نفسه تقريباً، يمكننا أن نتخيل أنه قام حين عرضت لوحة روبنز الأشهر، من بين «أعماله الريفية» القليلة، أي لوحة «الكرمس»، التي رسمها بين عامي 1635 - 1637. لقد بدت هذه اللوحة على الفور مناقضة تماماً للجوهر الذي بنى عليه بروغل عالمه الريفي، وبالتحديد ما يتعلق ب «الكرمس» الذي صوره هذا الأخير في عام 1568. إذاً، اللوحتان تحملان الاسم نفسه. وهما معاً تقدّمان مشهداً يدور خارج حانة ريفية: مشهداً يتضمن الرقص والموسيقى والطعام والشراب، إنه عالم الحركة في أوجها. ولئن كان لا بد من هذه الإشارة العابرة هنا إلى لوحة بروغل فإننا نكتفي هنا بهذا المقدار من الحديث عنها لننتقل إلى العالم الذي صوره روبنز في لوحته التي لا تقل شهرة، بالتأكيد، عن لوحة «أستاذه» الكبير. في لوحة «الكرمس» حافظ روبنز، كما نلاحظ، على أسلوبه الباروكي الصاخب الذي ميّز أعماله الفنية كافة. هنا، استحوذ روبنز على هذا المشهد التقليدي من الحياة الريفية الفلامندية، لكنه وضعه ضمن إطار حركة كلية تستبعد الابتذالية التي كان يمكن مثل هذا المشهد أن يحملها. إن أول ما استبعده روبنز هنا هو النزعة الطبيعية - التي ميّزت عمل المدارس النهضوية السابقة عليه - ليقدم نوعاً من «باليه» جماعي تدور رحاه في لحظات متعددة - تؤكدها الحركة الدائرية للمشهد - تحت سماء مفعمة بالشاعرية. إننا هنا أمام حركة دائرية لا نهاية لها تنطلق من يمين اللوحة إلى يسارها، وسط إطار طبيعي من الواضح أنه يتحدى الزمن، ليبدو وكأنه صخب لا نهاية له، كما أنه لا بداية له. إن الوجوه هنا، إذا دققنا فيها، تبدو وكأنها نسيت كل شيء غير اللحظة الآنية: نسيت الزمان والمكان في لحظة معلقة. إن ما نراه هنا إنما هو «الفرح بالحياة» عند كائنات مفعمة بالصحة، «كائنات لم يحدث، كما كتب أحد الباحثين في أعمال روبنز، أن تمكنت الحضارة من حرفها عن مسار حياتها». إن الحب والنهم - إلى الطعام ولكن أيضاً إلى بقية اللذائذ - هما ما يهيمن على حركة الأزواج والأفراد. وهذان يعبّر عنهما روبنز في الحركة الكلية للوحة: إنها حركة إعصار منطلق في دائريّته المؤلفة من أجساد متلاصقة ومتلاحمة، من الواضح أن خط انطلاقتها يسير بها من المبنى والكتلة الجماعية إلى اليمين، في اتجاه اليسار حيث الامتداد اللانهائي للمشهد الطبيعي: حيث الطبيعة والهدوء الساكن الصامت للحقول ينم عن لا مبالاة الطبيعة بالصخب البشري، وهي تعيش حالها الأبدية. أما في الفضاء فلدينا، إضافة إلى صور الغسق الأول، طيران عصفورين من الواضح أن حضورهما هنا إنما الهدف منه تثمين الجاذبية الأرضية التي تمثل الكتلة البشرية ثقلها. هذه اللوحة (يصل عرضها إلى 261 سم، وارتفاعها إلى 149 سم)، كان الملك الفرنسي لويس الرابع عشر اشتراها في نهاية حياته، ولذلك توجد اليوم في متحف «اللوفر» الباريسي وتعتبر من أهم مقتنياته، إضافة إلى أنها تعتبر من أوائل اللوحات الفلامندية التي دخلت مجموعات اللوحات الملكية الفرنسية. وتقول لنا سيرة بيتر - بول روبنز، إن الفنان رسم هذه اللوحة خلال السنوات الأخيرة من حياته، حيث كان ينعم، أخيراً وبعد تجوال طويل، بحياة عائلية هانئة وفرتها له زوجته وحبيبته الأخيرة هيلين فورمان. وكان ذلك الهناء العائلي قد منح أعمال روبنز خلال تلك المرحلة نوعاً من الدعة والعمق، ما جعله يبحث عن احتكاك أكثر حميمية بالطبيعة، خصوصاً أنه كان، في ذلك الحين، يمضي جل وقته في الريف، وتحديداً في القصر الذي كان اشتراه غير بعيد من آنفير. عندما رسم روبنز هذه اللوحة كان في الثامنة والخمسين من عمره، هو الذي ولد عام 1577 في مدينة سايغن (التي تعتبر اليوم جزءاً من الأراضي الألمانية). تلقى دراسته الابتدائية، كما بدأ يهتم بفن الرسم، في ألمانيا وفي أنتورب. قام عام 1600 بزيارة إلى ألمانيا تمكن خلالها من الحصول على وظيفة في بلاط فنشنزو دي غونزاغا. وخلال ذلك راح يمضي بعض الوقت في روما، وزار إسبانيا - سفيراً للبلاط الإيطالي. وفي عام 1608 عاد روبنز إلى أنتورب وقد صار متعمقاً في فنون النهضة الإيطالية، وعلى اطلاع على الفنون الإسبانية. وكان اتجاهه في الرسم قد أصبح باروكياً خالصاً. وفي أنتورب وضع نفسه في خدمة آل هابسبرغ رساماً، ثم سفيراً أيضاً، وهو إذ تجول بهذه الصفة الأخيرة في الكثير من العواصم الأوروبية راح يرسم الملوك. وفي عام 1635 عاد واستقر في أنتورب (آنفير) حيث بقي هناك، يرسم حتى وفاته في عام 1640. [email protected]