طريق الطموحات معبّد بالخيبات، خصوصاً إذا كانت الطموحات عربية، فنحن دائماً نطوي النفس على طموحات تفوق القدرات، مع أن المثل الشعبي يقول «على قد بساطك مدّ رجليك» ونردده من دون أن نلتزم به. مؤسسة الفكر العربي أطلقت في مؤتمرها السنوي الحادي عشر مشروع «لننهض بلغتنا»، وفرحتُ، فهو عمل يوافق دراستي ومهنتي وهوايتي، ثم ساورني القلق من أن تكون الفكرة غير قابلة للتنفيذ، خصوصاً أن مؤتمرَيْ القمة العربيين التاسع عشر والعشرين تحدثا عن دور اللغة العربية في التعبير عن إرثنا الحضاري والحفاظ على الهوية، والكل يعرف أن القمم العربية، منذ الأولى في أنشاص سنة 1946، لم تنفِّذ أيَّ قرار صدر عنها. أزعم أن مشروع النهوض باللغة العربية ممكن مع مشاركة مجامعها في مصر وسورية والعراق والسودان والجزائر، وعلى أساس دراسة ميدانية نفذها أفضل الخبراء في حقل اللغة وشملت 11 دولة عربية، هي الأردن والمغرب ولبنان وفلسطين وسورية وقطر وموريتانيا والمملكة العربية السعودية ومصر وتونس واليمن. المشروع ينطلق من قلق سببه تراجع مستوى اللغة، أو تدنّيه، وهجمة اللغات الأجنبية، خصوصاً الإنكليزية، فمفردات وعبارات إنكليزية أصبحت جزءاً من لغة التخاطب بين الناس، كما أن جامعات عربية كثيرة تعلم المواد الأساسية، من علوم وغيرها، باللغة الانكليزية، وأحياناً الفرنسية. ما سبق صحيح، إلا أن لي تحفظات عليه. لا قلق عندي البتة على مستقبل اللغة العربية، فطالما أن هناك قرآناً كريماً وإسلاماً ومسلمين فلغتنا مصونة، وربما أكثر من الانكليزية نفسها. لذلك أرى أن قلق الفرنسيين أو الايطاليين على لغتهم من هجمة الانكليزية مبرر، في حين أن عندنا ما يحمي اللغة. أما تعليم مواد معينة، ولنأخذ الطب مثلاً، بالانكليزية فأسبابه منطقية جداً في هذا العصر. بين أربعمئة قبل الميلاد وثمانمئة بعده، أو حتى الخليفة العباسي المأمون، لم يتغير شيء يُذكر في علوم الطب والفلك والهندسة والرياضيات. اليوم يتغير الطب مرتين أو أكثر في السنة الواحدة، وإذا كنا سنترجم المادة ونقدمها إلى طلابنا فهي لن تصل اليهم حتى تكون قد تغيرت وجاء ما هو أحدث منها وأكثر نفعاً. علينا أن نلحق بالركب أولاً، وأن نساهم فيه ثانياً، ثم نبدأ تعليم الطب بالعربية. وثمة مثل يحسم الجدل، فالتعليم الجامعي في سورية كله بالعربية، إلا أن العلوم في لبنان تُدرَّس بالانكليزية أو الفرنسية، والنتيجة أن مستوى الطبابة في لبنان متقدم كثيراً عليه في سورية، إلى درجة أنه عندما أصيب السيد فاروق الشرع بنوبة قلبية نُقل في سيارة إسعاف إلى لبنان لعلاجه. بعد كل ما سبق، أُعلن أنني قررت أن أتبنى مشروع «لننهض بلغتنا»، وأن أنصِّب نفسي رقيباً على الجهد، مع أنني سأختار العمل في جزء محدود واضح منه، هو أن نرقى بالتعليم في مختلف مستوياته إلى مرتبة كتابة لغة صحيحة. لدى أكثر الصحف الأجنبية الكبرى ووكالات الأنباء العالمية «كتاب أسلوب» يضم الأخطاء الشائعة وتصحيحها. وبما أنني بدأت الصحافة في وكالة «رويترز» وعملت بالانكليزية طويلاً، فقد وضعت «كتاب أسلوب» لمحرري «الحياة» ساهم فيه زملاء كثيرون قدَّم كل منهم أخطاء شائعة وتصحيحها، فجمعناها تحت العنوان «اكتب... لا تكتب». ربما كنت أشرت في مقال قديم إلى خطأ شائع، هو أن نقرأ مثلاً «بعد وصوله الى لندن صرح الملك...»، فالضمير في العربية يعود الى ما قبله، باستثناء وحيد هو ضمير الشأن أو الجلالة، مثل «إنها الدنيا غرور»، ويتبع هذا أن الصحيح أن نقول «بعد وصول الملك الى لندن صرح...». أعود إلى هذا المثل، لأنني وجدت في الشهور الأخيرة أن الخطأ يمكن أن يكون «موضة»، مثل التنورة القصيرة أو الطويلة، فيوماً بعد يوم أقرأ في صحفنا كافة «من ناحيته صرح فلان»، أو «من جانبه قال فليتان»... هذا خطأ، فهو ترجمة عن الانكليزية دخيلة على اللغة، ولأنه يضع الضمير في غير موضعه. لا أريد أن يكون كتّابنا، ولا أتوقع أن يكونوا، من مستوى ابن المقفع والجاحظ ومصطفى لطفي المنفلوطي وطه حسين، وإنما أطلب فقط لغة صحيحة، وأتذكر قول الشاعر الفلسطيني الشهيد عبدالرحيم محمود: لهفي على الفصحى رماها معشرٌ من أهلها شُلَّت يمينُ الرامي