على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت خلال العقدين الماضيين في سبيل تعريب التعليم الطبي والعلوم الطبية في الوطن العربي غير انه لم يتغير شيء.. فلا تزال كليات الطب في الوطن العربي تعتمد على اللغات الاجنبية في تعليمها للطب والعلوم الطبية، ومن هنا يأتي السؤال الكبير: لماذا لم يتفاعل متخذو القرار في الجامعات والكليات العربية مع قرارات وتوصيات المجالس والمراكز والهيئات والمؤتمرات، وجميع المدافعين عن قضية التعريب وخصوصا عقد التسعينات الذي يسميه البعض بعقد التعريب. يهدف هذا البحث والذي اجراه عميد كلية الطب والمشرف العام على الخدمات الصحية والطبية بجامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية د. خالد عبدالغفار آل عبدالرحمن لتقديم رؤية موضوعية حول تعريب التعليم الطبي في المملكة العربية السعودية والخطوات العملية للتنفيذ، حيث يقول في بداية بحثه. ليست قضية تعريب التعليم الطبي آنية ولا وليدة المتغيرات الجديدة على الساحة الدولية في الوطن العربي، انما هي قضية قديمة بلغت من الكبر عتيا تقاذفتها الاقلام.. والالسنة بين التأييد والرفض منذ منتصف القرن التاسع عشر حين كانت مدرسة الطب في القصر العيني بالقاهرة تدرس الطب باللغة العربية وشاء لها المستعمر ان تتخلى عن العربية فاحكم الخطة لتنفيذ هدفه بتبديل اللغة وسط مقاومة عنيفة. ويضيف د. خالد عبدالغفار.. والحقيقة ان واقع تعليم الطب في البلاد العربية بلغات اجنبية هو هزيمة نفسية خاصة اذا علمنا بأن الطالب عند تخرجه لا يملك في الغلب ان يكتب صفحة واحدة باللغة الانجليزية دون ان يرتكب العديد من الأخطاء، كما نجه يتجنب الحوار والمناقشة لضعف لغته، ذلك لأنه يدرس بلغة انجليزية ضعيفة هي هجين من اللغتين العربية والانجليزية ولبطء قراءته نجده يعتمد على التخصصات والملخصات وقليلا ما يعود الى المراجع. ولو رجعنا لبضع اعوام الى الوراء كنا اذا ما اثرنا موضوع تعليم الطب باللغة العربية وجدنا من يقول لنا هيهات فلن يحدث ذلك في بلادنا ابدا.. واليوم اصبحت الغالبية العظمى من المؤسسات التعليمية في بلادنا تدعو الى تعريب الطب، وتسمى عقد التسعينات بعقد التعريب. وفي منتصف التسعينات الميلادية اتفق كل من وزراء الصحة وعمداء كليات الطب في الدول العربية وخبراء منظمة الصحة العالمية في اجتماعاتهم التي عقدوها في كل من الخرطوم ودمشق والقاهرة على ان يكون تعليم الطب باللغة العربية، واجمعوا امرهم على البدء في تعريب كل من الطب الشرعي وطب المجتمع ثم بقية العلوم الطبية على ان يكتمل التعريب قبل نهاية هذا القرن اي خلال الخمس سنوات القادمة. ولدعم مشروع التعريب قام المكتب الاقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالاسكندرية بتخصيص جانب من ميزانية لتعريب العلوم الطبية واخيرا يجب ان نؤكد بأن التعريب الطبي لا يعفي الطبيب من ان يتقن لغة اجنبية واحدة على الاقل حتى يتمكن من متابعة ما يحدث في عالم الطب من تقدم. لماذا تعليم الطب باللغة العربية لا شك بأن لغة التعليم والتعليم لها اثر كبير في الفهم والإدراك وسرعة الاستيعاب للمتعلم، وحيث ان اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم وهي اداة تواصل المسلم التي يعتز بها، وفي بلادنا الغالية يتعلم الطلاب في جميع مراحل التعليم العام باللغة العربية فلماذا يتعلمةن الطب.. بلغة اخرى تتطلب منهم مضاعفة الجهد في القرآة والكتابة والاستيعاب. واظهرت النتائج الى ان عدد من الدراسات ايجابيات استخدام اللغة العربية في التعليم الجامعي منها دراسة الجار الله والانصاري التي اجرياها على 516 من طلاب وطالبات الطب بجامعة الملك سعود، حيث افاد 49% من الطلاب بانهم يستوعبون اكثر من 75% من المحاضرة عندما تلقى باللغة الانجليزية بينما اكد 45% لانهم يستوعبون ما بين 25-75% من المحاضرة، وتزيد نسبة الاستيعاب للمحاضرة اذا استخدمت اللغة العربية مع الانجليزية عند حوالى 90% من الطلاب والطالبات اما اذا كانت كلها باللغة العربية فقد افاد حوالى 60% منهم ان نسبة الاستيعاب تزيد، وافد 40.4% بأنها لا تزيد، وافاد 46% من الطلاب يحتاجون الى نصف الزمن لقراءة مادة مكتوبة باللغة الانجليزية لو كتبت بالعربية. و17.7% يحتاجون الى نفس الوقت، بينما يحتاج حوالى 6.3% منهم الى ثلاثة اضعاف الوقت، ووجد الجار الله والانصاري ان 27.6% من الطلاب والطالبات يحتاجون لثلث الزمن لكتابة مادة باللغة العربية كانت اصلا بالانجليزية مكتوبة، كما يحتاج 36.9% منهم الى نصف الزمن و27% الى الزمن نفسه، ويفضل 45% منهم الاجابة على ورقة الاختبار باللغة العربية، و36.9% الاجابة عليها بالانجليزية، بينما يفضل 15.1% الاجابة باللغة العربية مع كتابة المصطلحات باللغة الانجليزية، وفضل 3% الخلط بين اللغتين دون تدريب ويرى 50.7% ان التدريس باللغة الانجليزية يقلل من فرصة المشاركة اثناء المحاضرات، ويؤيد 60% من الطلاب التدريس باللغة العربية ويرى 8.7% منهم ان لا فرق بين التدريس باي اللغتين، وافاد 92.9% من الطلاب بانه يمكن البدء في تطبيق التعريب فورا. دراسة سعودية وتبين من نتائج دراسة استطلاعية اخرى اجريت في كلية الطب بجامعة الملك فيصل عن موقف طلاب الطب من تعريب العلم الطبي.. بان 80% منهم يوفرون الثلث من الزمن او اكثر عند القراءة باللغة العربية مقارنة بالانجليزية، وان 72% من الطلاب يوفرون ثلث الزمن او اكثر ايضا عند الكتابة باللغة العربية مقارنة بالكتابة بالانجليزية ويفضل 23% فقط الاجابة عن اسئلة الامتحانا بالانجليزية، ويرى 75% ان مقدرتهم على الاجابة الشفوية والنقاش افضل باللغة العربية. ودراسة اخرى اجراها السباعي على مجموعة من طلاب الطب واطباء الامتياز والاطباء المقيمين عن متوسط سرعة القراءة باللغتين العربية والانجليزية ونسبة التحسن اذا تمت قراءة النص باللغة العربية على ان سرعة القراءة باللغة العربية هي 109.8 كلمة في الدقيقة بينما هي 67.7 كلمة في الدقيقة باللغة الانجليزية، اي بفاىق 23.1 كلمة في الدقيقة لصالح اللغة العربية، اي سرعة القراءة بالعربية تزيد عن 43% على سرعة القراءة باللغة الانجليزية وتبين ان استيعاب النص باللغة العربية افضل من استيعاب النص نفسه بالانجليزية بزيادة 15% اي ان نسبة التحصيل العلمي هنا ستزداد 66.4% لو كان التعليم باللغة العربية وان طلبة الطب سوف يوفرون 50% من وقتهم لو قرأوا او كتبوا بالعربية. لماذا في كلية الطب بجامعة الإمام لقد تميزت الجامعة منذ انشائها في العلوم الاسلامية والتخصصات الشرعية واللغة العربية، ولقد تطلع كثيرون من الغيورين من اساتذة الطب في الجامعات السعودية منذ صدور القرار السامي بانشاء كلية الطب في جامعة الامام الى ان تبادر الكلية برفع راية تعريب التعليم الطبي وتبني نموذج فريد للمدرسة الطبية الاسلامية. إيجابيات التعليم باللغة العربية ان التعليم باللغة العربية يحافظ على بقاء هويتنا الاسلامية ويزيد من عزتنا والتمسك بقيمنا وثوابتنا وخصوصا في زمن العولمة والهزيمة النفسية امام العالم الغربي. ان التعلم باللغة العربية يزيد من سرعة الاستيعاب والفهم العميق لمفاهيم الصحة والمرض وان اللغة التواصل بين المريض والطبيب هي اللغة العربية. ان التعلم بالعربية لا يعني عدم اتقان اللغة الانجليزية بل يجب ان يتعلم طالب الطب القراءة والكتابة والالقاء بالانجليزية الى جانب العربية. ان الطالب يتلقى علومه كلها في المراحل الابتدائية والاعدادية والثانوية باللغة العربية.. ثم اذ بنا نطلب منه فجأة ان يقلب الى لغة اجنبية كل تعليمه. فأيهما اسهل يا ترى ان نغير لغة التعليم لالاف المؤلفة من الطلبة الى لغة غريبةلا يجدون مبررا مقنعاً لانقلابهم اليها.. ام نغير له لغة التعليم لدى الاساتذة فنطلب منهم بدل قليل من الجهد ليستطيعوا التدريس بلغتهم الام؟! في المراحل ما قبل الجامعة يكون رصيد الطالب من اللغة الانجليزية متواضعا جدا وبالتالي يجد صعوبة في استيعاب العلوم الطبية الاساسية، ولو كان التعليم بالعربية لزادت حركة التأليف والترجمة ووضع المصطلحات العربية. ان المصطلح العربيس ليس كل المادة الفكرية التي ينبغي توصيلها للطالب اي من المهم ان نلفظ المادة الفكرية بلساننا العربي، وان جميع القوانين الخاصة بتنظيم الجامعات تنص على ان لغة التعليم هي العربية وان التدريس بغيرها يحتاج الى استثناء اي ليس هناك ضرورة لقرار سياسي للتدريس بالعربية والعودة للاصل. أبرز العقبات ومن أهم العراقيل التي تذكر في وجه التعليم الطبي باللغة العربية هي الافتقار للكتاب المنهجي وكذلك الحاجز النفسي لعضو هيئة التدريس.. وعدم قدرته على التعليم باللغة العربية مثال لذلك. اولا: فيما يخص الكتاب: - هناك عجز واضح في الكتاب الطبي العربي.. وفي المعلومات عن الكتب والمراجع المتوفرة حاليا، وعليه لا بد من اجراء مسح شامل لكل الكتب والمراجع الصحية والطبية المتوفرة، كما يجب تزويد المكتبات الطبية باكبر قدر منها. - التنسيق في مجال الترجمة حتى لا تتكرر ترجمة الكتاب لواحد ومن الممكن ان يقوم بهذا المركز العربي للتعريب والتأليف والترجمة والنشر بدمشق، وتعطي الاولوية مرحليا لكتب العلوم الطبية الاساسية، ومن الممكن الاستعانة في هذا المجال بالجمعيات العلمية العربية في مختلف العلوم الطبية خاصة للاتفاق على ما يترجم من المؤلفات. - تنظيم تأليف الكتب المنهجية متعددة المؤلفين وذلك لاختصار الوقت والمساهمة للمتخصصين كل حسب تخصصه، مع محاولة تقييم الكتب العربية المتوفرة حاليا واختيار انسبها لكتب منهجية. - وضع خطة متكاملة لترجمة الكتب المنهجية وبعض من الكتب المرجعية والتعاقد مع دور النشر للدوريات العلمية لاصدارها، باللغة العربية على ان تشمل هذه الخطة نوع الكتاب الذي يترجم ومحتواه العلمي، والموافقة الكاملة من الناشر ويراعى في طباعة الكتاب العربي المادة العلمية والمراجعة الصحيحة علمياً ولغويا، ونوع الورق والطباعة والصورة على ان يكون في مصاف الكتب المترجم عنها الكتاب وهو عامل مهم (اي نوع الكتاب) شكلا ومضمونا، ويكون الكتاب جاهزا قبل البدء في التدريس مرحلة بمرحلة. وعند ترجمة الكتب الطبية يجب مراعاة ان هذه الكتب ذات حجم كبير ومادة علمية غزيرة، وعليه يجب ان يكن هناك عدة مترجمين للكتاب الواحد، وهذا يوفر الوقت والجهد في صناعة الكتاب. - الاتفاق مع دور النشر العالمية على ترجمة بعض الكتب المرجعية في فروع الطب المختلفة وكذلك على اصدار ترجمات عربية لدورياتهم، واستجلاب منشورات منظمة الصحة العالمية باللغة العربية باعداد كافية لاستعمالها في المكتبات، واعتماد استعمال المعجم الطبي الموحد كأساس في التأليف والترجمة ومراجعته دوريا. ثانيا: فيما يخص اعداد المدرس - ان يكون جميع اعضاء هيئة التدريس ممن يتكلمون، و يتقنون العربية، وتعقد الندوات العلمية وتلقى المحاضرات بالعربية من اساتذة لهم خبرة في التدريس بالعربية، مع تنظيم زيارات دورية لاعضاء هيئة التدريس الى كليات الطب التي تدرس بالعربية (سوريا مثلا). - تؤخذ انشطة الترجمة والتأليف بالعربية في الاعتبار عند الترقية والتعيين وتخصص حوافز مادية وادبية مجزية لكل انجاز في هذا المجال، وعلى الاساتذة اعداد ملخصات عربية وافية لبحوثهم المنشورة باللغات الاجنبية، مع تشجيع القاء بعض المحاضرات الطبية العامة باللغة العربية. - ايفاد المعيدين لتأهيلهم كاعضاء هيئة التدريس وكذلك تشجيع الدراسات العليا بالداخل، مع تشجيع اعضاء هيئة التدريس على المشاركة في المؤتمرات العلمية بالخارج لمواكبة التطور في مجال العلوم الطبية والصحية. الطب السعودي هل اعضاء هيئة التدريس السعوديين الان مستعدون لتعليم الطب والعلوم الطبية باللغة العربية؟ يمكن تقسيم موقف اعضاء هيئة التدريس من قضية التعريب الطبي الى ثلاث فئات: الفئة الاولى: هي التي تعارض التعريب بشدة بحجة ان اللغة الانجليزية هي لغة الطب والعلوم الطبية الاكثر انتشارا في العالم، وانها لغة التعليم في الدراسات العليا والمؤتمرات الطبية العالمية وان تجربة التعليم الطبي في السعودية باللغة الانجليزية طويلة وناجحة ولم تكن اللغة عائقا في تحصيل الطلاب سواء في المرحلة الجامعية ان في الدراسات العليا. الفئة الثانية هي الفئة المتحمسة والتي تؤيد التعريب بشدة، وتدافع عنه في كل مناسبة، بحجة ان كثيرا من كليات الطب العالمية الناجحة تدرس بلغاتها وان الدراسات اثبتت الاثر الايجابي في تعلم الطب باللغة العربية وان تعلم الطب بالعربية لا يعني عدم الالمام باللغة الانجليزية اضافة الى قائمة من الحجج التي تدعم رأيها. أما الفئة الثالثة فهي الفئة الوسط التي تؤيد تعليم الطب باللغة العربية شريطة ان تتوفر الشروط والضوابط التي تضمن نجاح القضية وهي التي تؤكد ان قضية التعريب هي قضية وطنية يجب ان تتبناها الدولة ضمن منظومة تعليمية متكاملة ووفق خطة استراتيجية على مراحل متناسقة. ولقد اجريت دراسة مقطعية في كلية الطب بجامعة الملك فيصل بالدمام في عام 2001م لمعرفة وجهات نظر اعضاء هيئة التدريس من موضوع تعريب التعليم الطبي وكانت نسبة المشاركة في الاستبيان 67% (74% من مجموع 110 اعضاء هيئة التدريس) وهم يشملون 22 استاذا و27 استاذا مشاركا، و23 استاذ مساعد ومحاضرين ينتمون الى 24 قسما (اقسام علوم سياسية و18 قسما سريريا) وتبين ان 34 (46%) موافقون و40 (54%) غير موافقون وخلص الباحث من هذه الدراسة الى انه ما زالت هناك مسافة كبيرة لبلوغ هذه الغاية في تعليم الطب العربية. خطوات علمية الخطوات العلمية لتنفيذ عملية تعريب التعليم الطبي والعلوم الطبية بالمملكة العربية السعودية. اولا: عقد ورشة عمل تحت مظلة جامعة الامام وبرعاية وزير التعليم العالي ووزير الصحة ومشاركة اساتذة وقيادات كليات الطب واعضاء مجلس ادارة الجمعيات السعودية للتعليم الطبي، تهدف لاعداد مذكرة موضوعية وعملية نحو تعريب التعليم الطبي بالمملكة. ثانيا: التوصية بتشكيل فريق عمل عالي المستوى لدراسة التجارب العالمية للدول الكبرى التي تدرس الطب بلغاتها. ومنها اليابان وفرنسا والمانيا وهولندا وكذلك التجربة السورية. ومن ثم الرفع بخطة استراتيجية مرحلية للتنفيذ لمجلس التعليم العالي. ثانيا: في حالة موافقة مجلس التعليم العالي، يصدر القرار السامي في تنفيذ القرار على مراحل. ثالثا: انشاء هيئة وطنية لتعريب الطب والعلوم الطبية. الخلاصة: ان مشروع تعريب الطب في جامعة الامام لا يمكن ان يتم بمعزل عن الكليات الطبية الاخرى التي لا تلاال تدرس باللغة الانكليزية. حيث ان لغة الممارسين والاطباء العاملين في المستشفيات والمراكز الكبية هي اللغة الانجليزية. ان مشروع التعريب هو مشروع وطني يجب ان يتخذ فيه قرار سياسي ويتطلب خطة استراتيجية متكاملة لضمان توفر المصادر الطبية الحديثة باللغتين. وهذا يتطلب مراكز للترجمة الفورية واتفاقيات دولية مع دور النشر الطبية وقواعد البيانات العالمية لجعل اللغة العربية ضمن قائمة النشر.