الفقيه من الناس، ولكنه علم بأمر الله وشرعه، يرفعه الله به درجة أو درجات (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، وله فضل حركة وزيادة جهد فهو المثابر والمسافر للتفقه، (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، ولست بصدد الحديث عن فضل الفقيه والمتفقه، فلذلك مدونات ومطولات تحدثت عن نمط من الفقيه الذي يصعب وجوده الآن! على نحو ما صنع الخطيب البغدادي وابن عبدالبر، لكن حديثي عن الفقيه المعاصر بمصادره ومدارسه ومخرجاته، في وقت تكشفت فيه التقنية عن ممكنات التواصل الكوني، ففي كل بيت وفي تطبيق كل وسيلة اتصال يوجد الفقيه بصوته وصورته، أي أنه حال من تشكلات المسلم المعاصر، وإذ قد بلغ الفقيه عند بعض الأتباع والمدارس والمصالح مكانة لا يطاولها النقد، فلحوم العلماء مسمومة! فلا بد من الوعي أن الله قد أكمل الدين، وأما التدين فهو فهم بشري، يتغير بتغير «الزمان، المكان، الأحوال، والأشخاص»، وهو قابل لكل أدوات النقد والتطوير، والفهم الغالط للدين يعود للفاهم نفسه، ولا يجوز جعل الدين مَركباً لتسويق الوهم والغلط، وحياة الناس ليست رخيصة، وتدينهم يجب ألا يكون مغرياً لأشباه الفقهاء في تقطيع أعمار الناس في مفاهيم غالطة، وتجارب فاشلة، إذ على الفقيه أن يتحول إلى التفكير الفقهي بدلاً من الترديد الفقهي! وفي مسائل هي من الفقه على وجه الحقيقة، لا على وجه التكثر وإشباع الحضور وتكوين الجماهير، لأن الذين يبحثون عن فقه لكل الحياة، ستواجههم الحقيقة أن الحياة أكبر من الفقه. إنها دعوة لفقيه العصر أن يلحظ حاجات الناس في عالم مصلحي يتسارع ويتعقد، وألاّ يجعل الفقيه من نفسه عائقاً من دون الناس ومصالحهم ومعاشهم، بل يجب أن يكون الفقه الإسلامي عوناً على جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، للأفراد أو للجماعات، سواءً في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع. الفقيه اليوم مطالب بشمولية النظر في الحال والمآل ليجمع بين القراءة للواقع والقراءة للخطاب، فالنصوص تنزل على الوقائع، وفي الحديث: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه...»، الحديث. فقرأ الواقع، وأنهم أهل كتاب، ثم أنزل الأحكام، ومن المعلوم أن المستجدات لا نهاية لها ما دامت الحياة، ونحن مأمورون بموافقة الشريعة، وموافقتها وعدم مخالفتها كما يعبر ابن قيم الجوزية، أي ليست الموافقة هي المطابقة، ومن هذا المفهوم فالشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وأتذكر في هذا المقام قول الإمام ابن تيمية: «ليس الفقيه من يعلم الخير من الشر! إنما الفقيه من يعلم خير الخيرين وشر الشرين»، وقول الفقيه ابن زروق المالكي: «الفقيه تحكمه الاتساعات». مهمة الفقه اليوم في إظهار المسلم بشخصية الاتزان والمعرفة والعقل، وأن يكون لائقاً لعمارة الحياة وتحقيق وجوده وشهوده الحضاري، ولن يكون كذلك حتى تأمن خطاه التعثر بعقليات التحريم والممانعة بما ليس بمحرَّم ولا ممنوع، ومن ثم تقديم الإسلام كما هو (رحمة للعالمين). [email protected] @alduhaim