بات من المتّفق عليه، لا سيّما منذ شيوع المعلومات وتكاثر وسائطها، أن التساوي في المعرفة والاطّلاع غدا أحد أهمّ معايير الديموقراطيّة في المجتمعات المتقدّمة. وفي الموازاة، عملت العولمة والثورة الرقميّة، خصوصاً في البلدان الأقدر على الإفادة منها، على إثراء مصادر إنتاج المعرفة وتكثير وسائل توزيعها. هذه معادلات لأزمنة الرفاه، أو أقلّه، للأزمنة العاديّة. أمّا الأزمات الاقتصاديّة والماليّة فلا تتعفّف كارثيّتها عن الاعتداء على تلك المعادلات. هكذا تغدو أزمة الاطّلاع وانكماش الفضول، أو القدرة على تلبيته، من نتائج التردّي الاقتصاديّ. يحصل هذا في الإعلام خصوصاً. يكفي أن نقارن: حين تخلّت صحيفة «نيويورك تايمز» عن رسم الاشتراك لداخلي موقعها، ارتفع عدد زوّارها من 12 مليوناً يوميّاً إلى 20 مليوناً. لكنّ التفكير الراهن يقول باعتماد وجهة معاكسة يفرضها تراجع المداخيل الإعلانيّة للصحف ولمواقعها على الانترنت. ولمّا كانت الجرائد الماليّة، ك «فايننشيال تايمز» البريطانيّة و«وول ستريت جورنال» الأميركيّة، قد حافظت على رسم الدخول تبعاً لطبيعة زوّارها العاملين في المال أو المهتمّين بشأنه، فإن سائر الصحف تميل حاليّاً إلى تقليدها. والجدير بالذكر أن النماذج التي يمكن استلهامها في هذا المجال تتعدّد، حيث ثمّة من يطلب دفع اشتراك على مقال بعينه، ومن يطلب اشتراكاً شهريّاً إلخ... مناسبة الموضوع هذا ما أعلنته مؤخّراً شركة «نيوز كورب» العملاقة لصاحبها المثير للجدل روبرت ميردوك. فالشركة هذه تملك بي سكاي بي وفوكس وصحف التايمز والصنداي تايمز والصن البريطانيّة، ونيويورك بوست ووول ستريت جورنال الأميركيّتين، ودار نشر هاربر كولينز وموقع ماي سبايس للتشبيك الاجتماعيّ. لكنّها لا تعاني الهبوط المريع في الاعلانات فحسب، بل تعاني أيضاً تراجعاً ضخماً في مبيع الكتب والأقراص المدمّجة (سي ديّات). وبالأرقام، خسرت «نيوز كورب»، منذ بداية العام حتّى نهاية حزيران (يونيو) الماضي ما قيمته 4.3 بليون دولار، بعدما بلغ ربحها في فصل واحد من العام الماضي 1.1 بليون. وبناءً عليه، ولأن هذا العام كان «الأصعب في التاريخ الحديث»، أعلن ميردوك عزمه على تغيير المبدأ والتخلّي عن مجانيّة الدخول إلى جميع مواقعه، بحيث تحذو كلّها حذو «وول ستريت جورنال». فالمهمّ الحفاظ على «النوعيّة الراقية»، التي في ظلّ ضعف الإعلانات وتزايد أكلاف الانتاج، لن يوفّرها إلا زيادة المداخيل. ومن أجل ألّا يفرّ الزوّار إلى المواقع المجانيّة التي لا يُحصى لها عدد، وكي لا يبتعد القرّاء عن مواقع اعتادوا طويلاً على مجانيّتها، وعد ميردوك بتحسين المادّة التي تقدّمها صحفه تحسيناً نوعيّاً. لكنْ من الذي يستطيع أن يضمن ميردوك، وما هي الطاقة التفاوضيّة للآخرين حياله؟ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون مضموناً في ظلّ الرأسماليّة أن مواقع إعلاميّة قويّة أخرى مرشّحة لأن تقلّده وتسير على طريقه. وهذا بؤس مؤكّد للمعرفة وتالياً للديموقراطيّة، خصوصاً إذا ما طالت الأزمة التي يُظنّ أن أسوأها قد عبر إلّا أنّها، هي نفسها، لم تعبر بعد.