«لقد عرفتُ أن الحرب لن تنتهي أبداً، طالما ظل ينزف، في مكان ما، جرحٌ سببته الحرب». هذه المقولة تنسب إلى الروائي الألماني هاينريش بول ( 1917 - 1985). وهي مقولة تفسر طبيعة العوالم والمناخات التي رسمها بول في أعماله التي رصدت ذاك الجرح النازف. والواقع أن صاحب «شرف كاترينا بلوم الضائع» لم ينكر هذا المنحى الخاص لأدبه، بل قال إن كتابته تمثل «أدب الأنقاض أو الأطلال»، معتبراً أن الكتابة الواقعية عن الحرب وفترة ما بعد الحرب «التزام أخلاقي للأديب». ينتمي هاينريش بول، الحائز نوبل الآداب عام 1972 إلى مجموعة كتّاب ما بعد الحرب العالمية الثانية الذين كانوا شهوداً على المأساة، وهو يعتبر أحد كبار ممثلي الأدب الألماني المعاصر. عرف شهرة واسعة منذ بداية الخمسينات خارج حدود بلاده، ولغته الألمانية، إذ ترجم أدبه إلى مختلف اللغات. وينظر إلى كتاباته على أنها وثيقة صادقة وجريئة تتناول الوضع الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، فهو صوّر تداعيات هذه الحرب وانعكاساتها في النفوس، وأظهر في معظم أعماله عملية التطور الاجتماعي للمجتمع الألماني بدءاً من فترة ما بعد الحرب وحتى رحيله منتصف الثمانينات. ولم يكن هذا المسار الأدبي إلا نتيجة منطقية للظروف التي نشأ فيها. ولد صاحب «نساء أمام طبيعة نهرية» عند نهايات الحرب العالمية الأولى، وعاصر صعود النازية وكبوتها في بلاده، وشهد، وهو شاب، أهوال الحرب العالمية الثانية، فهو كان جندياً فيها، وساقته الحرب من فرنسا إلى روسيا عبر رومانيا والمجر، وجرح أربع مرات، ثم أصبح جندياً فاراً بأوراق مزورة، وانتهى به المطاف، كما انتهى بملايين الألمان، في معسكرات السجون الإنكليزية والأميركية بعد أن انهزمت ألمانيا على كل الجبهات في الداخل والخارج. عندما شرع بول في الكتابة بعد هذه المحطات المؤلمة العاصفة كان بديهياً أن تتحكم الحرب وانعكاساتها في تجربته، حتى قيل إن «مآسي الحروب هي التي وضعت الكلام في فمه». تتجسد هذه الرؤية في غالبية أعماله، ومنها رواية «ولم يقل كلمة» الصادرة في طبعة جديدة عن دار المدى (دمشق، بيروت 2012) بترجمة ياسين طه حافظ. تصور هذه الرواية ضياع الإنسان في مجتمع خرج لتوه من حرب دمرت الأرواح، وأشاعت جواً من القلق والحذر والريبة. هذا الهدوء المخادع الذي أعقب عاصفة الحرب، هو ما يوثقه بول في روايته، وكأن بول يريد أن يقول إن الحرب التي انتهت على جبهات القتال، لم تنتهِ بعد في ذاكرة الذين خاضوها وعاشوا ويلاتها، وإن خيباتها باقية في الوجدان، كما هي الحال مع بطل هذه الرواية فريد بوغنر. يعاني بوغنر من أزمات ما بعد الحرب، ويبحث عن العزاء من دون جدوى. هو نموذج لأفراد مجتمع يعانون الفقر والحرمان والوحدة، وأزمة السكن بعد أن تحولت المدن إلى أنقاض. يعيش منفصلاً عن زوجته كيت وأطفاله الثلاثة، لا بسبب خلافات زوجية بل لعدم توافر منزل مناسب يضمهم جميعاً. يقضي بوغنر أيامه في المدينة، المجهولة الاسم، ضائعاً في الشوارع والمقاهي والنزل الرخيصة وغرف الأصدقاء. يعمل على بدالة الهاتف في أبرشية، ويعطي دروساً خصوصية. لكنه عاجز عن تأمين حياة لائقة له ولأسرته. هذه الحياة العبثية التي يعيشها هي نتيجة طبيعية للعنة الحرب التي أفقدته التآلف مع إيقاع الحياة. عمل بوغنر، أثناء الحرب، موظف بدالة الهاتف لثكنات عسكرية لمدة ثلاث سنوات تقريباً، كان يصغي خلالها إلى أصوات غير مهتمة تقرأ أرقاماً في الهاتف «وتلك الأرقام هي أعداد الموتى، حاولت تصورهم، ثلاثمئة قتيل، ذلك جبل كامل». كان الضجر يلازم يومياته، ولعنة الحرب تتسرب إلى وجدانه كطعنة غائرة لن تزول أبداً: «ربما تركت فيَّ الحرب نُدْباً، فأنا دائماً أفكر بالموت». هذه الهواجس حاضرة، الآن، في ذاكرة بوغنر الذي يعاني من صدمة الحرب، ويعجز عن التغلب على ظروف الحياة المضنية، وعن التصالح مع الذات. هو بلا سند في عالم مخرب مادياً وروحياً. خراب يظهره بول عبر تفاصيل دقيقة تعبر عن الزيف والتشوه الروحي والنفاق وسواها من القيم السلبية التي أفرزتها «النازية»، على رغم أن هذا التعبير لا يذكر في الرواية. يتقاسم بوغنر وزوجته كيت مهمة البوح والنقد على صفحات هذه الرواية. يتحدث كل منهما، بضمير المتكلم، عن همومه وأحلامه الضائعة، وتوقه إلى حياة هادئة؛ هانئة صعبة المنال. ومع بلوغ الصفحة الأخيرة في الرواية نكتشف، عبر تلك الأحاديث والحوارات، مدى البؤس الذي يرزح تحته مجتمع خبر الحروب طويلاً، ولم يستطع أن يتجاوز هزائمها المرة سواء على الأرض أو في النفوس. الرواية تمثل صرخة إدانة للحرب. لكن من دون الذهاب إلى الجبهات وساحات المعارك، كما نرى في روايات مماثلة. هاينريش بول يدين الحروب بعد أن وضعت أوزارها، وهدأ دوي المدافع على الجبهات. هنا، يأتي مهمة الكاتب كي يستعيد فصول المأساة بكثير من الهدوء والعمق عبر تصوير جانب من الحياة التي يعيشها بوغنر وزوجته كضحيتين من ضحايا الحرب التي لم يكن لهما أي دور فيها، فقد فرضت عليهما مثلما فرضت على آخرين. وهذه هي طبيعة الحروب دائماً، إذ يفتعلها القادة الكبار، ويجني البسطاء حصادها الموجع، وفظائعها القاسية. الرواية مكتوبة بلغة بسيطة واضحة، فالكاتب الذي يناقش أهوال الحروب لا يتورط في شرح ملابساتها ودوافعها، ولا ينهمك في الحديث عن ألاعيب السياسة وخفاياها، كما أنه ينأى بنفسه عن أي دعاية أو مقولات مؤدلجة بهدف الانتصار لهذا الطرف أو ذاك. هو يتخفف من كل هذا العبء ليكتفي بسرد وقائع بسيطة في حياة بطلي الرواية بوغنر وكيت. «ولم يقل كلمة» هي مرآة تعكس طبيعة المجتمع الألماني في تلك المرحلة التي أعقبت الحرب بكل خيباتها، وهزائمها لذلك وصف بول بأنه «المؤرخ الرسمي لجمهورية ألمانيا الاتحادية»، مثلما قيل عن بلزاك إنه «رسم مجتمع الجشع في مملكة البرجوازية». وهذا التأريخ أو التوثيق لا يأتي ثقيلاً، بل في حبكة سلسة، وعبر سرد خفيف يتوسل التقاط الفكرة بلا استعارات أو رموز. الكاتب ينتصر في روايته، بل في معظم أعماله، لنماذج بسيطة، منسية، فهو لا يصور حياة الموسرين وتجار الحروب، بل يغوص في قاع المجتمع ليعثر على أبطاله الهامشيين والمعذبين الذين يعانون من المصاعب والمتاعب، ويحلمون بأبسط مستلزمات العيش! يصغي بول إلى الشجن القابع في أعماقهم ساعياً إلى إظهار سخف الحرب بكل صورها وأشكالها، ومحنة الأخلاق التي أفرزت الفاشية، والنازية. ولعل كتابات بول، في تأويل أبعد، تعد درساً أدبياً بليغاً يفيد بأن الحروب لا تخلف سوى الموت والدمار والأزمات، حتى وإن اعتقد بعض الساسة المعتوهين أن حروبهم عادلة.