رفضت الانسياق الى شروط السوق، ودافعت بشراسة عن سينما مختلفة عن السائد في مصر. أسست مجموعة «الحصالة» للفن المستقل بهدف دعم السينمائيين الشباب ومساعدتهم على إنجاز مشاريعهم من دون تنازلات، وراهنت على تجربة فيلمها الروائي الطويل الأول بعد سنوات من الانتظار والعمل في السينما الوثائقية. إنها المخرجة المصرية هالة لطفي الفائزة بجائزة أفضل مخرجة من العالم العربي في الدورة السادسة من مهرجان ابو ظبي السينمائي عن الفيلم الذي بدّلت عنوانه من «جلطة» الى «الخروج للنهار» ليتناسب وما ولّدته الثورة المصرية من آمال في النفوس. لكنّ الفيلم ليس عن الثورة بل عن الإنسان والمشاعر المسكوت عنها داخل الطبقة المسحوقة في القاهرة... وقد عبّرت عنها لطفي بلغة سينمائية رشيقة وبتمكّن جعل كثراً ممن شاهدوا الفيلم بعد عرضه العالمي الاول في ابو ظبي يثنون عليه ويتوقعون له جائزة أفضل فيلم. «الحياة» التقت المخرجة المصرية الشابة في المهرجان، وكان معها هذا الحوار: راهنت بفيلمك الروائي الطويل الاول «الخروج للنهار» على سينما مختلفة عن السائد في السوق المصرية. لماذا؟ - أُشبّه ما يحدث اليوم على الساحة الفنية من تكريس لذوق فني منحط، بما شهدناه بعد الثورات، سواء في مصر أو سورية، حيث لم تجد الأنظمة السياسية الفاسدة المنحطة إلا عدداً من لاعبي كرة القدم وممثلين في السينما والتلفزيون ليدافعوا عنها، ويخونوا الجمهور الذي صنعهم. ولا ارى ان هذه السياسة منفصلة عن محاولة إذلال الإنسان في مصر. هي خطة ممنهجة، تنسحب على كل شيء يتعلق بحياة الإنسان البسيط من مأكل ومشرب وملبس وتعليم ومواصلات... والفن جزء أساس من هذه المنظومة، أي ان يُشاهد المواطن منتجاً رديئاً. وهذا المنتج هناك من يُدافع عنه بحكم القانون... فكل النقابات الفنية والفنانين المعتمدين عند النظام يدافعون عن المنتج الرديء بمنتهى البسالة، لأن لا مصلحة لهم في ان يشعر المرء بكرامته ويشاهد أفلاماً تمنحه مساحة للشعور بإنسانيته. من هنا، فإن استثمار البلايين في مصر لإنتاج فن رديء لا ينفصل عن إذلال الإنسان المصري بكل الطرق، ابتداء من إهانته في أقسام الشرطة وانتهاء باغتصاب حقوقه في أن يبقى حراً ويحظى بحياة كريمة. ولكن هناك فكرة مسبقة حول السينما المستقلة بأنها تُعادي الجمهور. ألم تفكري بهذا الجمهور؟ - كنت مخلصة لفكرة ان هذا الفيلم يجب ان يرضيني أنا في شكل شخصي ويرضي العاملين فيه في شكل مباشر. كان لدينا هامش كبير للمغامرة، خصوصاً ان لا شيء لدينا لنخسره، فلا شركة إنتاج كبيرة وراءنا ولسنا نغامر بمال أحد، كما لا وجود في الفيلم لنجم خائف على صورته أمام جمهوره. وكلما كبرت المغامرة، كنا نستمتع أكثر فأكثر. النص الاول الذي عرضته امام منحة «الصندوق العربي للثقافة والفنون» لم يتعد الصفحات الثلاث. وعندما كتبت السيناريو لم يتجاوز عشر صفحات، مؤلفة من 30 مشهداً موزعة على 4 سطور لكل مشهد. كان كل من يقرأ سيناريو الفيلم يتولد لديه شعور بأنه امام فيلم قصير لا فيلم طويل. وعندما كنت أقول لهم ان الفيلم من دون موسيقى، كانت تلك القناعة تزداد وتترسخ. لكنّ ذلك لم يثنني عن المضي قدماً، بل كان يشكل فرصة بالنسبة إليّ لأتحدى نفسي، خصوصاً انني كنت أراهن على فكرة الزمن الميت. فكل الحكايات قيلت. ولم يبق إلا العمل الوثائقي الإبداعيcreative ،documentary اي ان يروي كل فرد حكايته الشخصية، الحكاية التي هو بطلها. او ان تحكي قصة روائية من دون ان تعتمدي لغة الأجيال القديمة، فإذا كنا نحاول خلق وعي مختلف، فلا بد من رؤية الواقع بعين مختلفة. لذا لا بد من ان نخوض مغامرات في المستقبل على مستوى الشكل، وهذا من شأنه ان يغيّر ذوق الجمهور وعلاقته بالأفلام. تحذير من الانزلاق كيف تفسرين توجه بعض المخرجين المستقلين في مصر الى الاستعانة بالنجوم في أفلامهم؟ - أحذّرهم من الانزلاق لفكرة ال «ستار سيستم» (صناعة النجوم)، فأنا احترم هؤلاء المخرجين وأحبهم، لكن توجههم هذا يجب ان يتمّ في أضيق الحدود كي لا يكونوا قد وقعوا في المصيدة. انطلقت في الفيلم من محنة شخصية مررت بها. الى اي مدى نجحت في التعبير عنها؟ - أنا ممتنة لقدري لأنني على الأقل وجدت صوتي. فأنا احب صنع الأفلام الوثائقية، ولكن هذا الموضوع بالذات لم تكن اخلاقي لتسمح بالتعبير عنه وثائقياً، من هنا اتجهت الى الروائي. الهدف كان أن نحكي عن المشاعر المكتومة أو المسكوت عنها. تلك التي لو تركناها تخرج الى العلن في لحظات الالم لوجدنا العزاء. ولكن متى ظلت تلك المشاعر مكتومة في داخلنا، تصبح الأزمة اكبر وكأننا نضع أنفسنا داخل سجن أكبر من ذاك الذي نوجد فيه. الحكاية كلها قائمة على اقتناص العالم الداخلي للشخصيات من دون كلام، لأنه لا ينفع ان نعبّر عن هذه الحالة بالكلام. وبالفعل، عندما كتبت السيناريو كانت الفكرة مبنية على محنة شخصية شبيهة بمحنة البطلة، وكنت أشعر بالعجز وبلحظة وجود مظلمة، ولكن في الوقت ذاته كانت الفكرة الأساس تدور حول فقدان الأمل. قد يرى بعضهم شخصيات «الخروج للنهار» شخصيات مهزومة مستسلمة لقدرها، فيما يرى آخرون الشخصيات نفسها تتحلى بالشجاعة. هل لعبت على هذه الازدواجية؟ - الاستسلام الشجاع لظروف ليست نبيلة هو الذي يسيّر الشخصيات. وفي اعتقادي، فإن نبل الإنسان هو في أن يقبل الهزيمة وهو منتصر. من هنا ستكون «تيمة» مشروعي الجديد لحظة الهزيمة الكبيرة حين تتحول الى انتصار عظيم للروح الإنسانية، خصوصاً ان القصص الكبيرة على المستوى الإنساني هي تلك التي تعكس هزيمة كبيرة يتم تقبّلها بنبل كبير. حركة الكاميرا الدائرية في عدد من المشاهد قد يجد فيها بعضهم نظرة صوفية فيما يراها آخرون تعبّر عن الحلقة المفرغة التي تدور فيها الشخصيات. فهل قصدت ذلك؟ - الدائرة في نظري تأخذ هنا المعنى الصوفي، بمعنى ان خروجنا من مكان هو مدخل لدخول مكان آخر، وبأن الموت مدخل لحياة جديدة، وتقبّل الواقع مدخل لأمل ما بمعنى من المعاني. ولكن، ماذا تقولين لمن لم يجد في الفيلم أي ضوء أمل مما تتحدثين عنه؟ - عندما عرضت السيناريو على المخرج محمد خان، تضايق جداً منه لأن لا امل فيه، وكان يقول لي إن الأفلام العظيمة هي تلك المفتوحة على الأمل. ظل يردّد على مسمعي انني لكي انجح لا بد من ان اجد مدخلاً لبصيص امل. ولا انكر انني حاولت كثيراً ان استجيب لهذا الكلام وأعثر على معجزة. وبينما كنت أبحث عن أمل مفقود، كنت في الوقت ذاته، بتعاملي مع محنتي الشخصية، انتظر معجزة مماثلة، لكنها لم تحصل. ثم أدركت ان الزمن فقط يجعلك تتقبلين واقعك وتتعايشين معه او تتجاوزين المحن... وهذه هي المعجزة. من هنا ظل الفيلم مخلصاً لكونه شبه الحياة حيث الأمور ليست مرتبة كما في الأفلام. يبدو جلياً تأثرك في هذا الفيلم بالسينما التسجيلية؟ - هناك قلة حيلة جماعية تجاه واقع شديد الظلم لا وجود فيه لأي منفذ. الشجاعة الوحيدة التي قد تبديها هي تقبلك للواقع. بهذا المعنى الفيلم قريب من الفيلم التسجيلي لأن المشاعر داخل كل شخصية على الشاشة هي مشاعر حقيقية بالكامل. فمثلاً عندما عرضت على الممثل أحمد لطفي دور الأب العاجز تفاجأت بقبوله الدور فوراً، وسألته عن السبب، فأخبرني ان والدته مرّت بهذه التجربة وهو اعتبر أداءه للدور تحية لها، وقد أضاف الى الشخصية الكثير. من يضحك أخيراً خلال 4 سنوات من العمل على الفيلم واجهت مشاكل كثيرة، حدثينا عنها؟ - على رغم كل الأمور السيئة التي واجهناها خلال السنوات الأربع انتهت الاحوال لمصلحة الفيلم. فمثلاً، حقدت كثيراً على المخرج يسري نصرالله حين استدعى مدير الإنتاج الذي كان يعمل معي قبل التصوير بأسبوع ليشارك في فيلم روائي له بعنوان «مركز التجارة العالمي». قال لي وقتها الشاب كيف أرفض فيلماً يضعني على السكة بموازنة تبلغ 12 مليون جنيه لأبقى معك في فيلم موازنته 150 ألف جنيه؟ وعلى رغم انني حقدت يومها على يسري، غير انني اليوم ممتنة له امتناناً غير متناهٍ، خصوصاً ان مدير الانتاج الذي اخترته اول الامر لم يكن الشخص المناسب للفيلم، ولم يكن ليصنع فيلماً جيداً، بل كان سيأخذه الى مصير شبيه بما هو موجود في السوق. ولم يكن هو الوحيد الذي انسحب قبل التصوير بأسبوع، بل حذت حذوه تلك التي كانت مرشحة لبطولة الفيلم بعدما خافت من التجربة ولم تجد نفسها في الدور. وبالصدفة البحتة قابلت دنيا ماهر وقررت انها الأنسب. في البداية حين التقيتها تغير رأيي، إذ وجدت ان وجهها ميت، ولكن ما ان أدرت الكاميرا حتى حدث تحول لافت وكأن دنيا غير موجودة الا امام الكاميرا. اما سلمى النجار (الأم)، فأضافت الى الدور الكثير، علماً انها تقف للمرة الأولى امام الكاميرا. بصراحة انا ممتنة لكل فريق العمل لتعاونه معي. ولا اخفي انني بعد اسبوعين من التصوير كنت محبطة جداً ولم اكن راضية عن النتيجة، فكان جواب الجميع انهم مستعدون للإعادة من دون مقابل. وليست مسألة سهلة أن تجدي فريقاً ليس لديه استعداد لأي تنازلات او الخضوع لشروط السوق. باختصار كل ما بدا انه لعنة اول الامر، انتهى لمصلحة الفيلم. لماذا اخترت الطبقة المسحوقة في القاهرة لتعبّري عنها؟ - لم يكن اختياراً، فأنا صوّرت الطبقة التي انتمي اليها والتي لا اعرف سواها. بمن تأثرت من المخرجين الأجانب؟ - أكثر فنان غيّر نظرتي الى السينما هو المخرج بيلا تار، فأنا اعتبره أعظم مخرج حيّ. والشهادة الكبيرة التي نلتها حين فزت بمنحة صندوق «سند» في أبو ظبي هو ان مديرة المشروع ماري بيار ماسييا هي منتجة فيلم بيلا تار الأخير Turin horse. وهذا فخر كبير لي.