بعد عشرة أيام في رحاب الفن السابع، تختتم غداً الدورة الثالثة من مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي في ابو ظبي بتوزيع مليون دولار على الأفلام الفائزة في المسابقة. وإذا كانت أسماء الرابحين لم تعرف بعد، فإن أول جائزة منحت في المهرجان. كانت من نصيب المخرجة السعودية الشابة هيفاء المنصور التي فازت بجائزة «منحة الشاشة» (قيمتها مئة ألف دولار) وهي خاصة بكتابة السيناريوات التي قدمتها «لجنة أبو ظبي للأفلام» في اختتام مؤتمر «الدائرة». أما المنافسة بين أفلام المسابقة لنيل الجوائز فكبيرة لما يتمتع به عدد كبير منها من مواصفات تؤهله للفوز. من هنا لن تكون مهمة المخرج الإيراني عباس كياروستامي ورفاقه في لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة سهلة. كذا الأمر بالنسبة الى رئيس لجنة تحكيم الأفلام القصيرة المخرج المصري يسري نصرالله، ورئيس لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية المخرج جيمس لونغلي. وإذا استثنينا بعض المشاكل التنظيمية، خصوصاً ما يتعلق بالمكتب الصحافي، يمكن القول إن المدير التنفيذي للمهرجان بيتر سكارلت نجح في مهمته، وإن كان الوقت له في المرصاد في استعداداته لهذه الدورة (استلم مهامه قبل خمسة أشهر فقط من المهرجان). فهو، فضلاً عن حضوره الدائم في أروقة المهرجان وغالبية فعالياته، عرف كيف يجعل من هذه الدورة حدثاً سينمائياً صرفاً بعدما كانت الغلبة للطابع الاحتفالي في الدورتين الماضيتين. من هنا لا بهرجة مبالغاً فيها ولا أضواء فاقعة إنما سينما جميلة أقبل عليها الجمهور بكثافة تطرح علامات استفهام، خصوصاً عند إجراء مقارنة بسيطة بين دورة هذا العام وسابقتها. فبعدما كانت الصالات السينمائية تخلو في كثير من الأحيان من المشاهدين، ها هي الدورة الثالثة تكتظ بهم، وان كان لكل فيلم متفرجوه تبعاً للجالية التي ينتمي إليها. وسواء كان الجمهور جمهور سينما حقيقياً أو من تلاميذ مدرسة إماراتيين او طلاب جامعات فرض عليهم الحضور، فإن المهم هو حضّ هؤلاء على المشاركة في هذا الحدث علّ السينما تصبح بعد فترة طقساً يقبل عليه أهل أبو ظبي بنهم. وهنا يكون المهرجان حقق هدفاً بين أهداف كثيرة يعوّل عليها، بعضها سينمائي وبعضها سياحي - ترويجي. تساؤلات الحاضر والماضي ولعل القاسم المشترك بين غالبية الأفلام العربية المشاركة في المسابقة يكمن في طرحها تساؤلات الماضي والحاضر من خلال انغماسها في السياسة والمجتمع. يتجلى هذا في فيلم المخرج الفلسطيني ايليا سليمان «الزمن الباقي». فهذا العمل الذي صفق له الجمهور طويلاً، يقدم بلغة سينمائية عالية لا تشبه إلا سينما ايليا سليمان، جزءاً من سيرة المخرج من خلال نظرة تهكمية مريرة الى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وواقع عرب 48. إذ ترصد الكاميرا فصولاً من حياة عائلة فلسطينية أراد المخرج ان تكون عائلته الخاصة، ليصوّر أولئك الحاضرين الغائبين بالاتكاء على ذكرياته وذكريات والديه: فهم حاضرون لأنهم لم يغادروا ديارهم او لم يطردهم الاحتلال الإسرائيلي منها... وهم غائبون لأنهم مشروع مهجرين بالنسبة الى الدولة الإسرائيلية. من هنا تسمية الفيلم «الزمن الباقي» (الحاضر الغائب). ومثلما يسافر فيلم ايليا سليمان في الزمن من سنة 1948 الى اليوم، كذلك يفعل فيلم «ابن بابل» للمخرج العراقي محمد الدراجي، وان اختلفت التواريخ واختلف الجلاد والضحية. في هذا العمل عودة الى عهد صدام حسين والمجازر التي ارتكبها في حق شعبه وصولاً الى اكتشاف المقابر الجماعية قبل فترة. ولكن من دون ان ينغمس الفيلم في مشاهد العنف والدمار التي استنفذت صورها الفضائيات، فكان أن أبصر النور فيلم شاعري مؤثر من خلال رحلة عجوز وحفيدها بحثاً عن ابنها الضائع في سجون بغداد. ومن سجون بغداد الى معتقلات سورية مع فيلم المخرج السوري حاتم علي «الليل الطويل» الذي فقد بوصلته بتشعب شخصياته. فهذا العمل الذي يلاحق ثلاثة سجناء سياسيين بعد الإفراج عنهم، عجز عن إيصال تخبطاتهم بعدما وقع في فخ المباشرة والوعظ اللاجدوى منه، خصوصاً في المشهد الذي يجمع الشاب الثوري المناضل وشقيقه «الشاطر» الذي يتكيف مع الواقع، ولا يتوانى عن إعطاء بركته لزواج شقيقته من ابن السياسي المتنفذ الذي كان حرم والده حريته عشرين سنة. ومع هذا لا بد من الحديث عن جرأة المخرج الذي على رغم معرفته بحساسية الموضوع المثار في فيلمه وعدم تمكنه من تجاوز أسوار مثل هذه الأرض الشائكة، تجرأ على خوض المغامرة وان لم يوفق بها كثيراً. حنين الى زمن ولّى الماضي والحاضر حاضران أيضاً في كل الأفلام المصرية المشاركة في المسابقة - يستثنى هنا فيلم أسامة فوزي «بالألوان الطبيعية» الذي ألغي عرضه لأسباب تقنية -. يتبدى هذا من فيلم الافتتاح «المسافر» للمخرج أحمد ماهر الذي قسم عمله الروائي الطويل الأول الى ثلاثة فصول: الأول تدور أحداثه سنة 1948 حين تطأ أقدام «حسن» ميناء بور سعيد حيث يقع في حب «نور» أجمل فتيات البلدة. القسم الثاني ينتمي الى عام 1973، وفيه يلتقي «حسن» ابنة «نور» (نادية) لتبدأ شكوكه بأنه ربما يكون والدها. فيما يدور الجزء الثالث في 2001 حيث يلتقي «حسن» ابن «نادية»، فيعامله على انه حفيده. وبصرف النظر عن الحكاية، تكمن أهمية الفيلم في كونه يرصد التحولات التي مرّت بها مصر بعد الثورة ليرسم صورة قاتمة للواقع الذي آلت اليه الأحوال. كذا الأمر بالنسبة الى فيلم «هليوبوليس» الذي عرف فيه المخرج أحمد عبدالله كيف يحمّل فيلمه ثقل يوم عادي في حياة المصري من خلال إيقاع بطيء يعكس الخيبة التي يرزح تحتها شخوص الفيلم الخمسة الذين وان كان ينتمي كل منهم الى بيئة مختلفة، الا انهم جميعاً يتشاركون الضياع ذاته، تماماً مثلما يحدث لشارع «هليوبوليس» الذي فقد بريقه، لكن عماراته لا تزال شاهدة على عصر ذهبي ولّى. ولا يقتصر هذا الكلام على هذين الفيلمين الروائيين فحسب إنما يتعداهما الى الأفلام الوثائقية المصرية المشاركة في المسابقة. فإذا كان أحمد ماهر اختار مصر الجديدة في فيلمه الروائي الطويل الأول ليعيد قراءة ما آلت اليه الثورة، فإن تهاني راشد في فيلمها الوثائقي «جيران» انحازت الى منطقة «غاردن سيتي». وبينما استعمل ماهر الشكل الوثائقي في فيلمه الروائي من خلال شخصية الطالب الجامعي الذي يجري بحثاً عن الأقليات في مصر الجديدة، استعملت تهاني راشد السينما الروائية للحديث الوثائقي عن شارع «غاردن سيتي» الذي كان شارع الطبقة الفاحشة الثراء. إذ استعانت بأرشيف بعض الأفلام القديمة من تلك التي صورت في قصور العائلات التي هجرتها الثورة، او تلك التي تطرقت الى تداعيات سقوط الملكية. حتى فيلم نبيهة لطفي الوثائقي «كاريوكا» عن تحية كاريوكا لم يوفّر تلك الحقبة التي عاصرتها سيدة الرقص الشرقي، وكانت عنصراً فاعلاً فيها على رغم تحولها من أبرز المناصرين لثورة عبدالناصر الى أشد مناهضيها. كل هذا يدعو الى السؤال: لماذا كل هذا الحنين الى زمن ما قبل الإيديولوجيا حيث كانت الساحة تتسع للجميع؟ وهل يندرج هذا التوجه في السينما المصرية في إطار محاسبة الحداثة والإيديولوجيات بعد ترييف المدن وتراجع حال أهلها؟ ثم، هل بات مباحاً اليوم ما بدأه يوسف شاهين في فيلمه «إسكندرية ليه» الذي هوجم عليه إبان عرضه لبحثه عن الأقليات في مصر؟ أسئلة لا يمكن ان نعرف إجاباتها الا بعد عرض هذه الأفلام في مصر لنتلمس توجه الشارع وما إذا كان سيرجمها أم لا. وفي الانتظار تبقى أنظار أهل مهرجان أبو ظبي متجهة الى حفلة الختام غداً التي تكرم الفائزين قبل ان تتوّج بالكوميديا الأميركية السوداء «الرجال الذين يحدقون في الماعز» (من إخراج غرانت هيسلوف وبطولة جورج كلوني) المستوحاة من قصة جون رونسون التي حققت مبيعات كبيرة لتسليطها الضوء على محاولات الحكومة تسخير قدرات جنودها الخاصة لقتال العدو. فهل سيكون لها النجاح ذاته في السينما؟