لم يكن مفاجئاً إطلاق إسرائيل منذ شهر ونيف حملة «أنا لاجئ يهودي» في مواجهة حق العودة للاَجئين الفلسطينيين. اللامفاجأة تكمن في أنَ هذه الحملة ليسَت مستجدة، بل لطالما حفلت الاستراتيجيات الإسرائيلية التزويرية لتاريخ القضية الفلسطينية، بالانقضاض على الحقوق المشروعة، فيما لم يقابل هذا الانقضاض سوى مقاومات ديبلوماسية عربية خجولة، قد تكون حتَمتها ستاتيكوات الاستبدادات التي تسيّدت على مدى الأربعين عاماً الماضية، وكانت حليفةً موضوعيةً لإسرائيل، وها هو الربيع العربي اليوم، على الرجرجات الطبيعية التي نعايشه فيها في هذه المرحة الانتقالية، قد يفتح أفقاً لإنهاء منطق أن فلسطين ورقة أو ساحة، يؤكد على إمكان مواجهة إسرائيل بسياسات عملانية أكثر منه بخطاب خشبي لو تمطى بشعارات شعبوية طويلاً. أما وقد انتقلت إسرائيل من الديبلوماسية الدفاعية إلى تلك الهجومية في قضية اللاجئين الفلسطينيين، فإن ثمة ما يؤشر، وعلى رغم كل الصخب في الملف النووي الإيراني، كما التواطؤ الروسي – الأميركي في تزخيم حرب الاستنزاف في سورية، فإن ثمة ما يؤشر إلى أن في الشرق الأوسط، بعض حراك استثنائي، ولو هادئ، للبحث في إمكانية إعادة إطلاق عجلة المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، بعد الانتخابات الأميركية. كما يؤشر الموقف الفلسطيني الحاسم بالتوجه إلى الأممالمتحدة، ولمَ لا إلى مجلس الأمن، لتكريس قيام دولة فلسطين، على رغم صَلَف الفيتو الأميركي، يؤشر إلى أن التقابل الديبلوماسي الفلسطيني – الإسرائيلي بلغَ أوجه، والحاجة باتت ملحة إلى الاستثمار في الموقف الأوروبي بنَفَس فاتيكاني عميق لإدانة المسرى التاريخي العدواني لإسرائيل. استهداف «أونروا» وبالاستناد إلى هذين المؤشرين، قد تكون إسرائيل بادرت لوضع حملة «أنا لاجئ يهودي» في مواجهة «أنا لاجئ فلسطيني»، وكان قد سبق هذه الحملة استهداف تراكمي لدور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين – (أونروا)، من خلال لوبيينغ صامت لتقليص موازنة الدول المانحة فيها، وبالتالي الدفع باتجاه إلغاء تصنيف اللاجئين الفلسطينيين لاجئين بحكم القانون الدولي، بما ينزع أحقية قضيتهم السياسية ويضعها في سياق إنساني بحت. أما الأخطر في ما سبق إعداداً لهذه الحملة، فكان تسويق بعض الأطر الأكاديمية الغربية، معطوفةً على بعض البراغماتيين السياسيين، لمبدأين تأسيسيين في أي حل مرتقب أو مؤجل لقضية اللاجئين، عَنَيت أولاً الإصرار على نقل هذه القضية من المسؤولية الدولية بدايةً إلى تلك الإقليمية من ثمَ خلوصاً إلى تحميل الدول المضيفة المسؤولية الكاملة عنها. وعَنَيت ثانياً البدء بإغفال مصطلح «لاجئ» من المنظومة اللغوية القانونية لمصلحة استخدام بديل هو «فلسطيني مقيم». وفي هذا التسويق خطورة بالغة مهدت لحملة «أنا لاجئ يهودي». فماذا في هذين العنصرين البنيويين في محاولة تصفية إحدى أخطر مسائل الحل النهائي؟ 1- حل «دولي» لا «إقليمي» ولا «وطني»، ثمة من يراهن على نقل المسؤولية الدولية عن قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى المستوى الإقليمي أولاً، فالمستوى الوطني ثانياً، بما يعني تكريساً للمسؤولية العربية، من خلال جامعة الدول العربية، وبالتالي تكريساً للمسؤولية الوطنية لكل من الدول العربية على حدة، فتمسي الحكومات معنية بإيجاد مخرج لمأزق تفاوضي، من خلال تعهدها الاهتمام الكامل بهؤلاء اللاجئين. يضاف إلى ذلك وضع هذه القضية في أولوية أي اتفاقات شراكة عربية – غربية اقتصادية، أو تعاون قانوني أو مالي، بما يجعل الدولة المعنية في موقع الدفاع عن انتهاكات تلصق بها هنا، وبالتالي يزاح عن كاهل إسرائيل أي اعتداء أخلاقي، ويمسي الإشكال حتمياً بين اللاجئين والدولة المضيفة. تسارع الخطوات في كل ما سبق الخَطوات متسارعة وهي جزء مؤسس في الإعداد، كما تحقيق مآرب حملة «أنا لاجئ يهودي»، ويجب التنبه إلى الإبقاء على المسؤولية الدولية، وإحدى عناصرها البنيوية حماية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. 2-«لاجئون» أولاً و«مقيمون» ثانياً وثمة من يراهن أيضاً، على تصفية الهوية القانونية لفلسطينيي الشَتات بما هم «لاجئون» في التعريف القانوني الدولي، بعد أن راهن ولم يزَل، على تصفية هويتهم الوطنية بما هم «مواطنو دولة فلسطين»، وذلك من خلال ضرب مقومات إمكان قيام دولة فلسطين على كل المستويات، بدءاً بالجغرافية منها. وبالاستناد إلى هذين الرهانين يتم تسويق مَقولة أن «اللاجئين الفلسطينيين» ليسوا سوى رعايا مقيمين في دول عربية، ويجب احتضانهم بمعنى التطبيع المجتمعي كما القانوني لهؤلاء، كما فعلت إسرائيل مع ما أسمته اليوم «أنا لاجئ يهودي»، وكأن الطرد والقتل رديفان لاقتناص ديني – أيديولوجي. من هنا يجب التنبه إلى أن استبدال مصطلح «لاجئ» بمصطلح «مقيم» يستدعي الكثير من التفكر القانوني بغية حماية القضية الفلسطينية ببعدها الوطني من التفكيك، خصوصاً إذا ما تم إعلان دولة فلسطين، والواجب أن تحسم فيه خيارات المواطنة مع اللجوء حتى العودة، ولو ببراغماتية عقلانية تصون الحق بالشرعية الأخلاقية. كل هذا يقتضي، وفي الربيع العربي، استنفاراً لديبلوماسية عربية مشلولة، أتنسمها من لبنان رئيس الدورة الحالية لجامعة الدول العربية. وقد يكون رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وبعد خطابيه التاريخيين إبان زيارة قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان، واللذين تضمنا إشارة جريئة لقضية اللاجئين الفلسطينيين، الأقدر إلى الدعوة لاجتماع طارئ للجنة المبادرة العربية للسلام، ومع أجندة تحرك سريعة في هذا السياق. هكذا ربما تعود فلسطين إلى مركزية الربيع العربي مرادفاً لديموقراطية عربية حقيقية. * كاتب لبناني