أبعد من كونها انتخابات جزئية لمقاعد تحسب على رؤوس الأصابع، فإن استئثار «العدالة والتنمية» المغربي بغالبيتها المطلقة يعني أن الحزب الإسلامي لم يتأثر نفوذه الشعبي بانتقاله من المعارضة إلى الحكومة. وكما كسبت الديموقراطية من خلال اقتراع لا تحوم حوله الشبهات، بعد أن حسم المجلس الدستوري أي تأويل إزاء استخدام المساجد لأهداف سياسية فإن النصر الذي حققه الحزب الحاكم يظل لافتاً. لم تتعرض أي حكومة مغربية لضغوط وإكراهات متعددة المشارب والمنطلقات والمواقع كما التجربة التي يقودها زعيم «العدالة والتنمية» عبد الإله بن كيران. وربما لهذا السبب تحديداً دأب على وصف مناوئيه بأنهم يعملون في الظلام. وأدخل مصطلحات من قبيل التماسيح والعفاريت وحاملي لواء التشويش إلى قاموس الصراعات الحزبية بعد أن كانت زعامات تتحدث عن «الحزب السري» وعن اللوبيات المناهضة للتغيير. وإنها لمفارقة أن يكون الحزب الذي أقر ترفيع أسعار البنزين ومشتقات المواد النفطية، استطاع أن ينجو من تصويت عقابي على رغم استخدام الأزمة الاقتصادية الخانقة في تحويل اتجاهات الرأي العام. ما يعني في أقل تقدير أن الكتلة الناخبة التي تدعم الإسلاميين تفعل ذلك بقناعة والتزام. فيما لا يزال خصوم الحزب الإسلامي يبحثون عن ذواتهم لاستمالة ناخبين إما أنهم لم يعودوا مبالين وإما أنهم لم يغيروا مواقفهم بعد اقتراع تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. بل إن الانتخابات الجزئية في طنجة ومراكش لم تتأثر بالخريطة السابقة. ولم يفلح أي من الفاعليات التي حازت على الرتبة الثانية أو الثالثة أو الرابعة في معاودة تأكيد تلك التراتبية. ببساطة لم يكن لحزب «العدالة والتنمية» أن يحقق ذلك الاختراق الكبير، لولا أنه تحول إلى»حزب مظلوم» يتلقى الضربات من كل جانب، وليس من طرف المعارضة فقط. ومنذ تأسيسه بدا أن المشهد السياسي في المغرب غير قادر على تقبل لاعب سياسي يختلف في مرجعيته وطرائق اشتغاله عن تقاليد حزبية متداولة. بل في الإمكان القول إن عدم التقبل تدرج ليصبح عدم استيعاب، لا يطاول هوية الحزب وإنما مجمل الرهانات والتحديات المطروحة. لا مجال لأي إسقاط. لكن وقائع دالة تؤكد أن الاتحاد الاشتراكي لم يعرف زخمه وامتداده الشعبي إلا بعد أن تأكد للجميع أن هناك محاولات تتجه لوأده. فهو أيضا تعرض لضغوط كانت تروم تعليق وجوده على خلفية اندلاع أحداث وقلائل، واحتاج الأمر إلى فترة أطول لاستيعاب أن شرعيته في المعارضة هي ما أضفى على حكومة التناوب ذلك الوهج الذي أحاط بخطواتها الأولى بقيادة الزعيم الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي. إسلاميو «العدالة والتنمية» أدركوا أين تقع مكامن القوة والضعف في البناء السياسي. وبعد أن تخطوا عقبة الإكراهات التي كانت تطلب رأس الحزب بأي ثمن، لاذوا إلى الناخبين يتمنون عليهم النصرة والتضامن. غير أن بن كيران الذي يرى أن القرارات الصائبة أفضل من أي شعبية زائلة لا يتوانى في الجهر بأن معركة حزبه في مواجهة الفساد والاستبداد لم تنته لأنه تبوأ صدارة المشهد الحزبي ولكنها مستمرة من موقعه الراهن. هذه المرة اختار أن يخاطب المنتدى الدولي الأول للديموقراطية في ستراسبورغ باللغة نفسها التي يحسنها. ومما قاله أن الأقوياء والأغنياء في الضفة الشمالية للبحر المتوسط يملكون الكثير وآخرون يملكون القليل. فيما الوضع في المغرب يختلف، فالأقوياء يملكون كل شيء والآخرون لا يملكون شيئا. ولعله باختيار كلماته أراد أن يوجه أكثر من رسالة وفي مقدمها أن المسؤولية الحكومية لم تغير من عاداته ومواقفه، وقد يكون ذلك واحدا من المعطيات التي جنبت حزبه أن يدفع ثمن الانتقال إلى الواجهة الحكومية. في مقاربة مماثلة أن سلفه عبدالرحمن اليوسفي كان ذهب إلى البرلمان الأوروبي يعرض تجربة بلاده بعد أن تعرضت للانتكاس. كان واقعيا وصريحا. لكن التوقيت لم يكن ملائما، بخاصة بعد أن انفض عنه مناصروه الذين تمسكوا بالمناصب الحكومية ولم يجد بديلا من الاعتزال. بن كيران الذي يرى أن تجربة حكومته أقرب إلى طبعة ثانية لحكومة التناوب لا يريد أن يستنسخ نفس الأخطاء. فهو يضع رجلا في الحكومة ويتكئ على الأخرى كي لا تنقطع صلته بالشارع. وكان من ثمار هذا التوجه المتسم بقدر أكبر من العناد أنه حفظ لحزبه ليس ماء الوجه بل بريق الاستمرارية. ثمة من يرى أن الانتخابات الجزئية تختزل الطريق أمام استحقاقات البلديات. وعلى رغم الفارق بين المنافسات الاشتراعية والمحلية، فإن الأخيرة تظل أقرب إلى ميول الناخبين، إذ ينكفئون على أحيائهم ومدنهم بغاية أن يتغير وجهها نحو الأفضل. وغدا في حال إقرار النظام الجهوي لن يبقى أمام السلطة المركزية سوى تدبير الملفات الإستراتيجية وترسيم الخطوط العريضة للتوجهات العامة. وإنها لمفارقة أن تكون مدينة طنجة التي انتفض سكان أحد أحيائها الهامشية ضد إفراغ مسكن وتحول الحدث إلى ما يشبه العصيان والتمرد الذي نتجت عنه القلائل هي نفسها التي جددت ثقتها في مرشحي «العدالة والتنمية». وليس أبلغ من هكذا صورة تضع العفاريت والتماسيح حيث يجب أن يكونوا ...خارج التأثير الحزبي والسياسي.