جاءت وفاة الزائر البشري الأول للقمر نيل أرمسترونغ، بعد أيام قليلة من نجاح المسبار الأميركي «كيوريوسيتي» في الهبوط على سطح المريخ. شكّل الحدثان أفقاً قاتماً بالنسبة للروس. وذكّرت وفاة أرمسترونغ بما حققه من فوز ساحق لأميركا في الفضاء في ستينات القرن الماضي، حين نجح في السير على القمر، بعد ساعات قليلة من تحطّم مركبة فضاء روسية غير مأهولة، حاولت تحقيق سبق للروس في جلب عيّنات من تربة القمر. وكذلك نجحت أميركا في إيصال أول مختبر مؤتمت الى سطح المريخ، هو «كوريوزيتي»، الذي انضمّ الى روبوتين - سيّارتين أميركيين على الكوكب الأحمر، هما «سبريت» و «أوبورتشونيتي». إذاً، بعثت الوفاة أشباح هزائم الماضي المريرة في الفضاء بالنسبة للروس. وذكّرهم «كيوريوزتي» بأن يد أميركا ما زالت متفوّقة على المريخ، الذي لا يملك الروس حاضراً أي مركبة على سطحه ولا في مداره! لم يمنع هذان الأمران الروس من لفت الإنتباه الى صلابة عزمهم على مواصلة المنافسة في الفضاء، خصوصاً أنهم دأبوا طيلة الأعوام الماضية على الحديث عن اختراق منتظر في صناعات الفضاء، يحضّرون له بخطوات واثقة. جهّزت روسيا لرحلة مأهولة إلى الكوكب الأحمر. وأعدّت عدّتها لإطلاقها في العام الحالي. لكن الرحلة تأخرت أكثر من مرّة. ويجري الحديث حالياً عن احتمال تحولّها إلى واقع عام 2020. دروس «محطة الفضاء الدولية» لا يسهل عقد مقارنات بين المشهد الحالي في الفضاء، وما كانت عليه الحال في العصور الذهبية بالنسبة إلى الروس. فعندما تسابق القطبان الأعظمان للوصول إلى القمر، في منتصف القرن العشرين، كانت امكاناتهما متكافئة إلى حد بعيد، بل أثبت السوفيات حينها تفوقاً ملحوظاً في مجالات عدّة، خصوصاً القدرة على الهبوط بمركبات الفضاء على الأرض وكأنها طائرات تعود الى مطاراتها، بينما تنقذف المركبات الأميركية الى الغلاف الجوي فتصبح كجمرة يعتمد مصير روادها على كفاءة غلافها الواقي. ثم ترمى إلى المحيط. وتُنتشل كأنها جسم غريق. ويختلف هذا الأمر مع واقع روسيا الحالي. إذ ارتضت أن تلعب دوراً ثانياً أو ثالثاً أحياناً، في برامج الفضاء الدولية. وتعتبر تجربة «محطة الفضاء الدولية» International Space Station مؤشّراً مهماً إلى تراجع الوجود الروسي في الفضاء الخارجي، على رغم المحاولات الحثيثة للحفاظ على تقدّم قطاع الفضاء باعتباره من آخر ما تبقى لروسيا من أمجاد الاتحاد السوفياتي، على شاكلة الأمر مع القدرات النووية. لم يتجاوز الدور الروسي في «محطة الفضاء الدولية» حدود المشاركة بنسبة ضئيلة في التجارب العلمية على متن المحطة، واستخدام القدرات الصاروخية لإيصال مركبات تحمل مؤناً ومعدات وروّاد فضاء، إلى تلك المحطة. الأنكى أن قدرات روسيا في هذه الأمور المحدودة، تعرّضت أيضاً إلى امتحانات عسيرة وعثرات متنوّعة، تمثلت في وقوع حوادث مختلفة أعاقت عمل المحطة لبعض الوقت. ولعل أبرز هذه العثرات تمثّل في فشل الصاروخ الروسي من طراز «سيوز- أو» في إيصال مركبة الشحن الفضائية «بروغريس» إلى المحطة الدولية في آب (أغسطس) الماضي، ما تسبب في اعلان تجميد اطلاق هذا الطراز من الصواريخ لبعض الوقت. وأثار الحادث هلعاً في الأوساط العلمية المتخصّصة بعلوم الفلك دولياً. وحينها، أثارت «الوكالة الأميركية للطيران والفضاء» (ناسا) إمكان أن تفرغ «محطة الفضاء الدولية» من روادها، ما يهدّد نشاطها بشلل مؤقت بسبب عدم القدرة على ارسال مركبة تحمل رواد فضاء، في الأوقات المحدّدة لهم. آنذاك، أعلن مسؤول في «ناسا» أن إمكان خلو المحطة الدولية موقتاً من طاقم القيادة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، أمرٌ وارد جداً، في حال لم تستأنف روسيا إطلاق صواريخها الفضائية قبل منتصف ذلك الشهر. وأشار المسؤول عينه الى ضرورة أن يعود طاقم قيادة «محطة الفضاء الدولية» إلى الأرض على متن مركبة «سيوز ت م أ-02 م» التي كانت ملتحمة بالمحطة في منتصف تشرين الثاني 2011، لأن مدة عمل هذه المركبة تنتهي في كانون الأول (ديسمبر) 2012. يذكر أن صواريخ «سيوز» الروسية تشكّل وسيلة النقل الوحيدة حالياً لإيصال مركبات فضائية تحمل إمدادات ورواد فضاء وملاحين إلى «محطة الفضاء الدولية». وسرعان ما نجحت روسيا في استئناف عمل رحلات صواريخها الفضائية، على رغم أن بعض خبرائها حذروا من التسّرع في هذا الأمر، مشيرين الى ضرورة إجراء مزيد من التجارب لمعرفة أسباب ذلك الحادث. روبلات الفضاء الضائعة في هذا السياق، أوضح خبير تحدثت إليه «الحياة» أن موسكو لم تكن ترغب بتحمل مسؤولية عن جمود نشاط «محطة الفضاء الدولية» خصوصاً أن الاعتماد على صواريخ روسيا كان شبه كلي. بالتزامن مع ذلك، وقع تطوّر آخر عندما فشل صاروخ من طراز «بروتون» في ايصال القمر الاصطناعي «اكسبرس أ- إم 4» إلى مداره في الفضاء في النصف الأول من آب (أغسطس) الماضي. ومرّة أخرى، توقّفت روسيا عن إطلاق صواريخ «بروتون». وفي وقت لاحق، عُثِرَ على هذا القمر الاصطناعي في مدار آخر، لكن محاولات الاتصال به بهدف تشغيل معداته باءت بالفشل. وأوضحت «وكالة الفضاء الروسية» أن خطأ في برمجة محرك «بريز- إم» على الأرض كان وراء فشل الصاروخ في إيصال القمر الاصطناعي إلى مداره. واعتبر خبراء أن الحوادث المتكررة مؤشر سيء إلى ترهّل قدرات روسيا فضائياً، على رغم الاهتمام الكبير الذي أبدته السلطات خلال السنوات الأخيرة بالحفاظ على شيء من التفوّق في هذا المجال، خصوصاً عبر انفاق موازنات ضخمة. وقد يكون هذا سبب الغضب الزائد الذي أبداه رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف أخيراً، بعدما فشل صاروخ من طراز «بروتون-أم» في إيصال قمرين اصطناعيين للاتصالات إلى مداريهما حول الأرض، بسبب عطل مفاجئ أصاب محركه. وأعلن ميدفيديف خلال جلسة خاصة عقدها مجلس الوزراء أخيراً، عن تصميمه على «معاقبة المسؤولين عن إخفاقات فضائية تودي بهيبة روسيا، كما تُفقدنا بلايين الروبلات». وفي تطوّر مهم، رجحت اللجنة التي شكّلتها الحكومة الروسية لتحري أسباب فشل الصاروخ الروسي، أن يكون خللاً ميكانيكياً في وسائل تغذية محرك الصاروخ بالوقود تسبّب في وقف عمل المحرك في وقت مبكر من رحلته. وقرّرت «وكالة الفضاء الروسية» إجراء مزيد من الاختبارات على صواريخ الفضاء للتأكّد من سلامتها قبل انطلاقها إلى الفضاء. وكان مصدر في صناعة الفضاء أبلغ وكالة أنباء «نوفوستي» بأن خللاً في عمل محرك «بريز-أم»، يقف وراء فشل الصاروخ في تحقيق مهمته. وأصبح القمران الاصطناعيان اللذان حملهما الصاروخ، هما من طرازي «أكسبرس-أم دي2» و «تيلكوم-3»، في عداد الأقمار الاصطناعية التائهة. اللافت في الحدث أن السبب المُعلَن للفشل في الحادث الأخير هو عينه الذي استُعمِل لتبرير ضياع قمر اصطناعي في العام الماضي. ويضع تكرار الحوادث المتشابهة على تباعد الزمن نسبياً بينها، علامات استفهام ثقيلة على آليات مراجعة الأخطاء التي تعترض تطوير خطط صناعات الفضاء في روسيا، وكذلك ايجاد حلول للمشاكل التي تعانيها. عزلة للتفوّق في مقابل إخفاقات متكرّرة حاقت بمغامرة روسيا في الفضاء وأحبطت معنويات بعض خبرائها، لم تألُ روسيا جهداً في الحفاظ على ما تبقّى من سمعة مرموقة لها في صناعات الفضاء، إذ أنجزت خطوات عدّة لتأكيد قدرتها على المنافسة في هذا المجال. وظهر هذا خصوصاً عبر تجارب التحضير لإرسال رحلة مأهولة إلى المريخ، مع العلم أن هذه الرحلة تستغرق سنوات. وبدأت التجارب لمحاكاة هذه الرحلة في العام 2007. وحينها، أمضى أفراد طاقم فريق بحثي 520 يوماً في كبسولة معزولة تماماً عن أجواء الأرض في مختبرات موسكو. و«عادوا» سالمين قبيل نهاية العام الماضي. وجاء المشاركون السبعة في تلك التجربة من روسيا وإيطاليا وفرنسا والصين. وخضعوا لفحوص عدة قبل أن يقع الاختيار عليهم. وبعيد عودتهم، أعلن غير شخص منهم أنه على رغم الوقت الصعب الذي أمضوه في العزل، إلاّ أنهم مستعدون للمشاركة في مهمة فضاء فعلية للسفر الى المريخ. هواء ودفء ثم... مآكل! هدفت التجربة لقياس مدى قدرة البشر على تحمّل السفر الطويل في الفضاء، وتحملهم رحلة متنوّعة الضغوط. وفي حال نجاح خطة إرسال بشر الى المريخ، يفترض أن يعمل رواد الفضاء بعد وصولهم إلى الكوكب الأحمر، لبناء مصنع يعمل على تدفئة الهواء عبر أخذ بعض المواد الكيماوية من التربة وفصلها وضخها في الغلاف الجوي. ومن شأن هذا الأمر أن يجعل الهواء على المريخ أكثف من حاله حاضراً وأعلى حرارة أيضاً أيضاً، ما يعني «تدفئة» ذلك الكوكب. وبعد 100 عام من تكرار عمليات مشابهة، يأمل العلماء أن ترتفع درجة حرارة المريخ فوق درجة التجمد، الأمر الذي يجعل المياه المتجمّدة تذوب لتتحوّل إلى بحيرات وأنهار. بعدها، يصبح الكوكب صالحاً لحياة أجيال مقبلة من البشر، أو يتحول إلى مزارع ربما ساهمت في حلّ مشاكل الأمن الغذائي على الأرض. لحد الآن، لم تخرج هذه الخطط الطموحة عن اطارها النظري. فمازالت غالبية العلماء تؤكد أن إرسال رحلة مأهولة إلى الكوكب الأحمر وتوفير ظروف مناسبة لإقامة عدد من رواد الفضاء على سطحه، هو أقرب إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر، لم تخرج حتى الآن عن أن تكون جزءاً من خيال علمي يمكن أن يشكّل مادة دسمة لفيلم سينمائي. وقبل أسابيع، أعرب أناتولي غريغورييف نائب رئيس «الأكاديمية الروسية للعلوم»، عن اقتناعه بأن التوصّل الى رحلة مأهولة إلى المريخ مازال بحاجة إلى كثير من العمل، وربما أُنجِزَت في النصف الأول من هذا القرن.