مستفيداً من خبرته الأكاديمية الطويلة، كتب برهان غليون دراسة في عنوان»منطق الثورة والمعارضة». كعادة الأكاديميين بدأ غليون بعرض مصطلحاته. حدد الثورة بأنها «ظاهرة من نوع الظواهر الطبيعة التي لا تخضع لمعايير العقلانية السياسية العادية، ولكنها تستمد هويتها من منطق آخر هو منطق الإنفجار...»، وبعد سلسلة من الأوصاف الشعرية لإضفاء طابع ميتافيزيقي على الثورة وتحويلها إلى مقدس، بالمعنى الديني للكلمة، كأنها عذراء لم يمسها بشر، ينتقل إلى القول: «في منطق الثورة ترمي الشعوب نفسها بكليتها وتضع مصيرها بأكمله في الرهان فإما النصر أو الهزيمة...». بمعنى آخر، الثورة على ما يقول، تقع خارج السياسة وخارج التطور التاريخي، تفجرها «الشعوب بأكملها»، أي هي ليست تتويجاً للصراع الطبقي، بالتعريف الماركسي، وليست صراعاً في مواجهة الإحتلال، ولا هي نزاع على الأرض، هي:»غاية في ذاتها وتحققها تحقق لهدفها في الوقت نفسه». لو أن اي طالب أتى إلى غليون بمثل هذه الدراسة لتوقف طويلاً عند عبارة «ترمي الشعوب(نفسها) باكملها في الرهان»، ولقال له أعد النظر في هذا التعميم فالشعوب طبقات وأقوام لكل منها مصالحه، والشعوب طوائف وقبائل وحاكم ومحكوم. والثورة قد تكون في مصلحة هذه الفئة أو تلك، وإلا انتفى الصراع وانتفت الحاجة إليها. ليس من شعب وقف ب «كليته» ضد السلطة أو ضد الإحتلال. هناك متضررون من الثورة. هذا في المبدأ العام. أما في ما يتعلق بسورية فكلام الرجل الذي كان على رأس «المجلس الوطني» يخالف الواقع. «الثورة هناك» ليست منزهة، يتداخل فيها الصراع الطبقي والديني والطائفي والمذهبي، ويتصارع فيها، وعبرها القومي والإمبريالي، والإقليمي والدولي، وإلا كيف نفسر المواقف التركية والأميركية والعربية والأوروبية والإسرائيلية، ومواقف روسيا والصين وإيران؟ وكيف نفسر لقاءاته بالمسؤولين في هذه الدول الشعب السوري لم ينتم إلى «الثورة ب»كليته». أبعد من ذلك، «الثورة « عظيمة في نظر غليون لأنها لا تخوض في السياسة، هي «كتلة شعبية متفجرة تحركها روح لا تخمد من إرادة التحرر والتضحية والفداء وهي وحدها من يملك زمام المبادرة على الأرض... ولا ترتبط بأي وعي نظري صوري أو إعداد مسبق أو مسار مخطط له، ولا يتحكم بها أي إدراك سياسي أو غير سياسي(كذا) هي تعبير عن حالة استثنائية بكل المعاني...». أما المعارضة : ف»لا تعمل إلا بمنطق السياسة القائم هو نفسه على الحوار والتفاوض للوصول إلى تسويات أو حلول وسط ترضي جزئياً، على الأقل الأطراف المتنازعة، ومن دون هذا الحوار ليس للمعارضة أي أمل في تحقيق شيء». تنزيه الثورة عن السياسة والحوار لا يخدمها ولا يخدم الذين فجروها، وتنزيهها عن «التلوث» بالنظريات يبعدها عن الواقع ويجعلها مطية للعاملين في السياسة، أشخاصاً كانوا أو أحزاباً أو دولاً. هذا ما علمتنا إياه كل الثورات، وتؤكده «الثورة» السورية يومياً: من يمولها ويسلحها يتحكم بتوجهاتها، وبمستقبل السوريين، ولا تتحكم بها «الروح» التي «لا تخمد». كل هم غليون من هذه الدراسة الحط من قيمة المعارضة غير المسلحة «ذات العقلانية السياسية» والإلتحاق ب»الثورة التي لا تخضع لمعايير (هذه) العقلانية». غليون الذي نقدر كتبه السابقة لم يكن هو ذاته في هذه الدراسة. أخذه العمل «الثوري» بعيداً عن المنهجية العقلانية. فلم تربحه السياسة ولم تخسره الأكاديميا.