يتعامل البنيوي الأميركي جوناثان كلر مع رجل المواهب المتعددة رولان بارت على أنه نص مفتوح ومراوغ يخضع للتأويلات كافة ولا ينتصر لتأويل واحد حتى النهاية أبداً، يُغيّر من أفكاره باستمرار من دون أن يعنيه أن تكون استوت هذه الأفكار أصلاً أو لا. يتخاطب كلر مع أفكار بارت في كتبه التي يورد باستمرار مقابسات منها بندية من دون أن يطمس معالم فتنتها الأساسية ومن دون أن يخضع تماماً لها. في لغة تزاوج بين الدقة والشعرِّية، لغة تشبه بارت، يحاول كلر أن يُلخِّص مشروع بارت في اعتباره مشروع القلق المستمر، الذي يتوسل ذاته ويبتغيها في الوقت نفسه وهو جوهر تجربة بارت كما يتناولها جوناثان كلر في كتابه «أقنعة بارت» الصادر حديثاً بترجمة السيد إمام عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، سلسلة «آفاق عالمية». لا يسعى كلر للإجابة عن أسئلة محددة حول مَنْ يكون رولان بارت مثلاً، فهو منذ البداية يعتبر بارت هو كل هؤلاء، الناقد والكاتب والأديب والسيميولوجي والميثولوجي والبنيوي ورجل اللذة، وأكثر. لكن ربما يكون السؤال الأهم الذي ينبني عليه نص كلر هو كيف هو بارت؟ كيف صاغ أفكاره الكبرى ثم كيف فجرّها بالحماس ذاته في ما بعد؟ «إن بارت كاتب بذري ولكنه كان يحاول اقتلاع ما بذره بمجرد ازدهاره...»، لذا يبدو من الصعب التوقف عند محطات معينة في حياة بارت واعتبارها ذروة تجربته، صحيح أن بارت معروف كبنيوي فرنسي، لكنه لم يكن هذا فحسب أو أنه لم يكن ذلك حتى النهاية، فالرجل الذي جاوزت شهرته حيز نقاد الأدب، واستطاع أن يكوّن له جمهوره الخاص الذي يسعى لحضور محاضراته بانتظام في الكوليج دي فرانس، يُمثل بالنسبة إلى كلر «حرباء» يمكن انتقاد كثير من أفكاره لكن لا يمكن بحال التقليل من تجربته الفكرية المتفردة والمتناقضة في بعض أجزائها أيضاً. إن رولان بارت يوافق على فكرة سارتر حول ضرورة أن يكون للأدب التزام اجتماعي وسياسي، ويضيف على هذه الفكرة كثيراً حين يتتبع تعاملات الأدباء مع فنهم في شكل متدرج ما بين الدور السياسي والاجتماعي والخضوع للغة عادية تُحيل إلى الواقع، ثم يصل إلى التفريق بين الأعمال التي تُنسَج مع الشفرات والنماذج التقليدية للمعقولية في مقابل الأعمال الكتابية التجريبية التي لا نعرف كيف نقرأها وإنما نستطيع فقط كتابتها. وفي كتاب «ميثولوجيا» يقول كلر إن بارت بدأ من تعريف الأسطورة كضلالة يتعين فضحها لأنها تسم التصرفات الإنسانية التي تُعبر عن نظام ذي دلالة إلى فعل يتم ترديده من دون الإشارة إلى كونه يعني شيئاً، وانتهى من تفكيك الأسطورة الحديثة في التكنولوجيا مثلاً إلى تمجيد هذه الأسطورة نفسها من خلال تتبع دلالاتها وفنية تفاصيلها، كما حدث في تعامله مع نموذج السيارات تحديداً. بارت الذي لم يتخلْ عن لذته الشخصية في ممارسة الكتابة بأشكالها المختلفة وقدم «قراءات أدبية فاتنة» في كتابه «لذة النص»، كان في أحد أقنعته عند كلر صاحب أسلوب روائي بلا «الحبكة والشخصيات»، ومع أن بارت تعامل نقدياً لفترة بتأثير من النقد الفينومينولوجي السائد في فرنسا آنذاك، أي الذي يتعامل مع أعمال كاتب معين على أنه ظاهرة في الوعي بين الذات والعالم، قرر أن يضع لذته الشخصية كأحد معايير الانطلاق في النقد في كتابه «عن راسين» وهو الكتاب الذي يراه كلر مستفزاً «مثله مثل منتوجات النقد الجديد يمكن أن يمثل قراءات فاتنة، ولكنها لم تعد نموذجاً يمكن أن يعتد به بارت أو غيره». لقد كان بارت يرى أن «النص موضوع اللذة»، وأن «التحدي الذي يواجهنا به الأدب هو كيف يقلقنا هذا العمل يُثير دهشتنا، يحققنا»، وقد عكف بارت من خلال قراءاته الأدبية ومنتوجاته الفكرية على توسيع دائرة اللذة بحيث تتجاوز المتعة العادية وتقارب الجسد، ومع أن هذه الفكرة التي تتمثل اللذة في القلق والهواجس والتحولات والتفاصيل، هي التي يبدو أنها كانت تحرك بارت في مشروعاته المتعددة، فقد عاد هو نفسه لنقدها، فالجسد كما يقول كلر يمتلك طاقة تفسيرية متهافتة ولهذا عبّر بارت فيما بعد عن ذلك «عليّ أن أسُلم بأن رغبتي كانت وسيطاً ناقصاً وبأن ذاتية اُختزلت في مشروع لذَّتها لا يمكن لها إدراك كُلي». أما الشعر الذي يبدو أنه كان في دماء مشروع بارت الحياتي المتجدد والمراوغ طوال الوقت لم يكن ضمن اهتمامات بارت النقدية، لأن الشعر بالمعنى المباشر عنده كما يقول كلر هو ما قبل السيميولوجيا أي ما قبل علم العلامات، وكان بارت يُفضل التعامل مع النصوص النثرية التي كانت تتيح له استخدام إمكاناته المتعددة في القراءات المختلفة «إن بارت يُفضّل الشظايا ويبتكر طرقاً لتشظية الأعمال التي تضم استمرارية حكائية»، هذه الجرأة على النص الأدبي هي التي مكنته هو المتحمس للأدب الطليعي المتجسد في كامو مثلاً من إعادة قراءة الكُتاب التقليديين بنَفَسْ مختلف وجديد، يجري وراء اللذة، يُفكك ويُركب كما يحلو له دون أن تعنيه آراء الأكاديميين الذين لم يتوقفوا عن مهاجمته، وبالتالي صناعة شهرته. وعلى رغم أن مشروع بارت الممتلئ باللذة والأرق لم يكن قد اشتعل حتى آخره، نتيجة لوفاته المأسوية العام 1980 حين صدمته شاحنة وهو خارج من عمله في الكوليج دي فرانس، فإنه لم يزلْ مثيراً للتأمل والافتتان والانتقاد، يسعى الجميع للاحتفاء به، لأن وكما يقول كلر» إنهم يحتفون بقلقه أكثر من احتفائهم بتحليلاته البنيوية»، وهو ما يسعى نص «كلر» نفسه لتحقيقه هنا؛ محاولة قراءة لذة بارت، بلذة موازية تبدو كمحاورة فكرية ممتعة صاخبة لا يعنيها أن تخرج بأي معنى كان.