في مفتتح روايته الجديدة «أنا ونامق سبنسر» (دار الجمل 2014)، يستعير الكاتب شاكر الأنباري بيتين شهيرين لشاعر المتصوّفة الأكبر محيي الدين بن عربي، يقول فيهما: «رأى البرق شرقياً فحنّ إلى الشرق/ ولو لاح غربياً لحنّ إلى الغرب/ فإن غرامي بالبريق ولمحه/ وليس غرامي بالأماكن والترب». يفعل الأنباري هذا في رواية أرادها، مثل عدد من رواياته وقصصه السابقة، أن تغوص في أعماق الجرح العراقي من جهة، وفي تفاصيل العلاقة بين الشرق والغرب، بما تحيل إليه هذه العلاقة من مسافة جغرافية وحضارية، بين عالمين متعالقين ومختلفين ومتباعدين في آن. رواية تحمل الكثير من الأسئلة، سنحاول المرور على «جوهرها» بما تسمح به هذه المساحة. الراوي/ السارد، الذي يظل بلا اسم طوال النص الروائيّ، هو كاتب عراقي هرب من جحيم ديكتاتورية صدّام حسين وهيمنة حزب البعث على مفاصل الحياة العراقية، واستقر في كوبنهاغن، تزوج برازيلية، وأنجب منها ابنتين، ثم انفصل عنها، وراح يبحث عن روحه الشرقية، استقر في دمشق زمناً، ثم عاد إلى «عراق ما بعد صدام»، ليوثّق ما يجري ضمن ملفّ «أرشيف العنف» لمصلحة جريدة عربية في كوبنهاغن، لكنه لم يستطع العيش في بغداد، فعاد إلى «ليل شمال أوروبا الكثيف». غربة الوطن وغربة المنفى/ المَهجر، غربتان تختلفان في الشكل والصورة، وتلتقيان في خلق الغربة الكبرى، الحياتية والوطنية والوجودية للإنسان، لهذا الكاتب، الذي لا يستطيع الاستقرار في مكان، فنجده يجوب مدناً وعوالم متناقضة ومختلفة ومتصارعة حدّ الموت، حدّ أنه لم يعد سوى «كتلة متحركة من الذكريات، لم تعد ترتبط بمكان بعينه». كاتب يمزج فيلسوف الوجود سورن كيركغورد مع عوالم كافكا و»الإنسان المتحوّل صرصاراً». ويستحضر الطيب صالح و «موسم الهجرة إلى الشمال» التي يتمنّى لو كان هو من كتبها. الراوي الذي سنعرّفه هنا باسم «أبو نجمة»، بناء على اسم ابنته الكبرى التي أنجبها، مع شقيقتها جميلة، من زوجته البرازيلية ماري، الهارب من العراق مع صديقه الكرديّ نامق (الذي سيكتسب لاحقاً اسم سبنسر، للشّبه الكبير بينه وبين الممثل الإيطالي بود سبنسر)، ثم يلتقيان بنادر (الذي سيحمل لقب نادر راديو، لالتصاقه بجهاز راديو قديم رفيقه الدائم)... يعيشون تجربة الاغتراب في مستويات متفاوتة ومختلفة الشكل والمضمون. ثلاثة شخوص، إذاً، يخوضون مغامرة اللجوء إلى الدنمارك، كلّ بطريقته، مغامرات يقدّمها الكاتب/ السارد بأساليب سرد تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة، فتتمازج الحياة مع الموت، والبؤس مع الجنون والبحث عن الملذّات، وتستغرقها التنقّلات والترحال في مدن العالم، حيث يطوف بنا النص في ثقافات وحضارات وعادات وتقاليد متعددة ومختلفة ومتصارعة حتّى، وثنائيات وطن/ منفى/ شرق/ غرب، شمال/ جنوب، والروح/ الجسد أيضاً. تبدأ الرواية من شقة في كوبنهاغن، وتنتهي بوصول أبطالها/ شخوصها الثلاثة إلى كوبنهاغن، هاربين من العراق عبر إيران ثم دمشق. وما بين البداية والنهاية، تجري مياه ورياح وحوادث كثيرة، تشكّل مادة هذه الرواية، التي تتناول، بالتفاصيل الدقيقة، حيوات هؤلاء الشخوص وعلاقاتهم وعذاباتهم، وما تنطوي عليه من توق الروح إلى الحرية، وشبق الجسد وملذّاته. الفارق بين المجتمع العراقي (العربي عموماً)، وبين المجتمع الدنماركي (الأوروبي أيضاً)، يخلق الفارق بين الحياة «هنا» والحياة «هناك». وعن وعي أكيد، يختلط المكان والزمان على الراوي المشتّت بين «هنا» و «هناك»، فيتحدث عن المجتمع العربي بوصفه «هناك»، فهو يرى إلى المجتمع الغربي أنه «غير قطيعي مثل مجتمعاتنا»، ويتحدث عن عزلة الناس «هنا»، حيث «عليك أن تكون فرداً فقط، وتنسى أن لديك عائلة أو عشيرة أو حتى حزباً، أما الفرد «هناك»، فهو «مفردة في قطيع، في بناء واسع». يتحدث عن الهجرة التي أصبحت عنواناً لحضارتنا الحديثة، حيث استبدال الوطن أصبح موضة رائجة في حياتنا. وهي في جزء منها، كما يرى، ظاهرة ليست سيئة. لكن استبدال وطن يحتاج إلى روح مغامرة، متمردة، تجهز على حنين الروح مرة واحدة وإلى الأبد. ومع ذلك فالحنين يظهر في صور كثيرة، إحداها حضور الغناء العراقي والعربي، حيث «أغاني داخل حسن الريفية، ومواويله السومرية القادمة من الأهوار البعيدة، أحسست وكأنني أعود إلى القصب، والليالي الريفية المقمرة، والنساء بائعات اللبن الرائب، والقرى الطينية التي تسبح في بحر من العزلة». وعلى رغم وجود عشرات الملايين من المهاجرين بين القارات، والشعور بأن هذا الخليط هو ما سيصنع الحضارة الكونية الجديدة، أي الحضارة المتعددة الأسماء، والأديان، والأطعمة، والألوان، واللغات، فهناك دائماً شعور «بغربة عن المكان واللغة وبشر هذه الأرض، الخوف ذاك صنع جدراناً بيننا أيضاً»، بل إن هناك «عنصرية كامنة، عنصرية حضارية إن صح التعبير، لا تظهر في التعامل المباشر، إنما بصور وأشكال ملتوية». ثمة بالطبع شعور بالضياع لدى الأبناء، وشعور مأسويّ بهذا الضياع بين الثقافات، كما هو الحال مع ابنة نامق المتزوج من بولونية «رأيت كارين. فتاة صغيرة حائرة بين لغات عدة، أبوها عربي، أمها بولونية، وتقطن في بيئة دنماركية، وكانت تجلس بيننا ضائعة بين اللغات تلك، حتى حوّلتها تلك الفوضى اللغوية إلى فتاة شبه خرساء. ونادر لا يتقن البولونية ولا الدنماركية، ويتكلم إنكليزية ضعيفة جداً». أما الدين، فلا يبدو أن ثمة مشكلة لدى «أبو نجمة» في هذا الإطار، فهو لم أكن أعير أهمية له «فالمبدأ السائد آنذاك، هو أن الطفل المشترك بين ديانتين سيختار، حين يبلغ سن الرشد، الدين الذي يلائم مزاجه ورؤيته». وبالعودة إلى الدافع الأساس للهجرة من العراق مجدّداً، نجد الراوي وسط «بغدادات كثيرة» في داخله، ونراه يتنقل بين تفاصيل من «الحياة السرية في بغداد» حيث «تجار الحشيش، شباب الايمو، تجارة الأعضاء البشرية في البتاوين، الشركات الوهمية، عصابات التزوير، عصابات خطف الأطفال، تجارة الأدوية المنقضية الصلاحية». أو نقرأ عن بغداد أخرى هي «خزّان للموت مفتوح على مذابح لا تنتهي، يصعب تفسيرها». إنها في النهاية «مدينة يكاد لا يعرفها». ولكن، في مقابل هذا الجحيم «العراقيّ»، فإن المهجر ليس أرحم، فالعلاقات بين أبناء الجالية «هنا» تغيرت كثيراً «أصبحنا شبيهين بالدنماركيين، أي أن كل فرد يهتم بحيزه الشخصي والأسري فقط». وبما أننا «نكبر، من دون أن نحس بالزمن، لكننا نراه على أجساد غيرنا»، وبما أن «أبو نجمة» فقد الكثير من أصدقائه، سواء في العراق أو في المنفى، فإن «صقيع الغربة» لا يقل وطأة عن «جحيم الوطن»... وهو بينهما مثل «قطار تائه».